عنب بلدي – يامن المغربي
فتحت الأحداث في السنوات الأخيرة في سوريا الباب أمام حركات ومثقفين ومؤرخين لمراجعة التاريخ السوري الحديث والتشكيك بما نقل منه، والتحقق بما كان ينشر ويدرس خلال عهد طويل من السلطة الواحدة التي ترفض أي رواية مخالفة لها، في محاولات لفهم الواقع بعد تحليل السياقات التي أدت إليه.
ثلاثة منطلقات للمشككين بالتاريخ
وتنطلق حركة التشكيك في التاريخ السوري، من منطلقين أساسيين، الأول أن التاريخ السوري الحديث مشكوك في صحته نتيجة سيطرة حافظ الأسد وحزب البعث على مقاليد السلطة منذ الستينيات (وصل البعث إلى السلطة في انقلاب عسكري في عام 1963 بقيادة اللجنة العسكرية، تبعت ذلك تصفيات اللجنة لبعضها حتى انقلاب الأسد في عام 1970)، ولترسيخ حكم الأسد كُتمت الأصوات المعارضة له وهذا ما يعطي مساحة كبيرة لتزوير التاريخ واستغلاله لمصلحة السلطة القائمة، تحت شعار “التاريخ يكتبه المنتصرون”.
أما المنطلق الثاني فهو ما يعتبره المقتنعون به ضرورة إعادة كتابة التاريخ لفهم الحاضر والمستقبل في بلد يحمل من التعقيدات التاريخية والاجتماعية والسياسية الكثير، مستندين على أن هذا التاريخ لا يرتبط بالحركات السياسية السورية التي قامت منذ السنوات الأولى من القرن العشرين فقط، بل يتصل كذلك بظروف تاريخية تتعلق بممارسات ومواقف اتخذتها الطوائف والعرقيات في سوريا، ومن هنا تبدو محاولات إعادة صياغة التاريخ السوري الحديث مهمةً لبيان حقائق كانت غائبة، أو مغيبة، لمصلحة سياسية بحتة.
ويشير مؤرخون وصحفيون إلى أن ما حدث في سوريا منذ منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تنعكس نتائجه اليوم على الأرض، فيما يتعلق بالنتيجة الحالية التي وصلت إليها سوريا اليوم، وفيما يتصل بعلاقات المجتمع السوري ببعضه داخليًا، والعلاقات السياسية خارجيًا، كما ينعكس على كل تفاصيل الحياة التعليمية والاقتصادية والاجتماعية وحتى العلاقات ما بين الطوائف والمذاهب الدينية.
وهناك طرف ثالث لا بد من الإشارة إليه، وهم حاملو الحنين إلى دولة إسلامية تعيد أمجاد المسلمين، بحسب معتقدات مناصري هذه الحركة، ما يعني بالضرورة التعلق بالحكم العثماني لسوريا الذي بدأ منذ معركة دابق في عام 1516، وحتى نهاية الوجود العثماني 1918، بعد اندلاع الثورة العربية الكبرى في عام 1916، على اعتبار أن سوريا قامت على أنقاض دولة الخلافة، مثيرين جدلًا كبيرًا بين من يربط سوريا بالقومية العربية، أو بالقومية السورية، أو حتى من يطالب بسوريا غير تابعة وغير مرتبطة بأحد.
التشكيك منطلق للتغيير
سعى الأسد الأب، إلى كتابة تاريخ سوريا بشكل يخدم استمراريته في الحكم، حتى وفاته في عام 2000، وتوريث الحكم لابنه لاحقًا.
وهو ما دفع عددًا من أبناء المجتمع السوري، للتشكيك في صحة هذا التاريخ، وفتح الباب لإعادة البحث والتشكيك فيما وصلهم طيلة عقود.
الصحفي السوري، نضال معلوف، قال لعنب بلدي إن حركة التشكيك هذه “بدأت في وقت مبكر جدًا، بعد بدء الأحداث في سوريا بقراءة التاريخ السوري المعاصر، والسبب هو الكارثة التي نعيش، انطلاقًا من فكرة البحث عن الجذور العميقة للكارثة التي نعيشها حاليًا”، على حد تعبيره.
واعتبر معلوف أن لإعادة قراءة التاريخ السوري منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم أهمية بالغة، معتبرًا أن السوريين لن يصلوا إلى حلول نهائية تؤسس لمرحلة جديدة يمكن أن تنقل المجتمع إلى مستقبل أفضل دون هذه المراجعة.
بينما اعتبر رئيس” المرصد الاستراتيجي”، الباحث الدكتور بشير زين العابدين، أن ما يحصل اليوم ليس تشكيكًا بالمعنى الحرفي بقدر ما هو مراجعة تقوم بها مختلف النخب الوطنية لما كُتب في تاريخ سوريا خلال فترة حكم البعث (1963-2011).
وأوضح زين الدين لعنب بلدي أن النظام صاغ رواية “رسمية” لتاريخ سوريا الحديث، ومنع أي رواية مخالفة لتلك الرواية، وقمع أي محاولات لإلقاء الضوء على الأحداث التاريخية خارج إطارها، وأبدى حساسية بالغة في أحداث معينة، وخاصة فيما يتعلق بدور فرنسا في إنشاء دويلات طائفية في سوريا خلال الفترة 1920-1936، ودور قادة حزب البعث في عرقلة المسيرة السياسية لسوريا خلال فترة الاستقلال، ووقوف بعضهم خلف الانقلابات التي عصفت بسوريا خلال الفترة 1949-1963، وسعيهم إلى وأد التجربة التعددية البرلمانية وفرضهم حكم الحزب الواحد.
أهمية هذا التشكيك
يرى أنصار حركة التشكيك، أو المراجعة للتاريخ كما يطلق البعض عليها، أن هذه المراجعة لها أهمية بالغة وتنطلق من الحاجة لإيجاد حلول نهائية تؤسس لمرحلة جديدة يمكن أن تنقل البلاد إلى مكان أفضل، بحسب نضال معلوف، الذي أكد أن الوصول لهذه المرحلة يتطلب التشكيك والمراجعة القائمة على القراءة المعمقة، وهذا ما يتفق معه بشير زين العابدين، خاصة فيما يتعلق في الفترة ما بين العهد الفيصلي (1918-1920) إلى الحقبة المعاصرة، مرورًا بكل المراحل التاريخية التي مرت بها البلاد، وصولًا إلى الثورة السورية 2011 التي يرى زين العابدين أنها لا تقل أهمية عن الثورة السورية الأولى بين عامي 1920-1927.
لكن زين العابدين اعتبر أن “المراجعات الشاملة” التي تقوم بها النخب الوطنية، خاصةً مع الموقف الرافض لرواية حزب البعث من الروايات التاريخية الرسمية، تتطلب جهودًا وطنية يقوم بها متخصصون في التاريخ وفي شتى العلوم الإنسانية، وأن ترتكز على المصادر التاريخية الوفيرة كالوثائق وروايات الشهود ومذكرات المعاصرين لمختلف حقب المرحلة الحديثة والمعاصرة.
خطوة إلى المستقبل.. لا إلى الوراء
لا يكمن هدف مراجعي التاريخ السوري حاليًا في البحث عن أزمنة مضت عليها سنوات طويلة، بقدر ما يرى المراجعون بأن هذه المراجعة من شأنها تشكيل هوية جديدة للمجتمع السوري، تشمل أيضًا التعرف إلى الطوائف والعرقيات السورية بشكل مختلف، هذا التغيير المطلوب، بحسب معلوف، لا ينطلق من مرحلة الانتداب الفرنسي في عام 1920، بل تجب العودة إلى منتصف القرن التاسع عشر.
وأضاف معلوف، “النصف الأخير من هذا العقد مهم للغاية في تأسيس كل ما حصل في القرن العشرين، ويجب أن نفهم أننا لا نريد إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء كما يتهمنا البعض، ولكن نريد أن نأخذ العبر ونستفيد من التجارب وأن نستعيد الذاكرة لأن شعوب هذه المنطقة تمتلك تاريخًا حافلًا يمثل ذاكرتها وخلاصة تجاربها”.
ما حصل في العقود الماضية، بحسب معلوف، هو “استكمال المشروع القديم بضرب شعوب المنطقة على رأسها مرة بعد مرة لكي تفقد الذاكرة، وبالتالي تفقد التجربة والحكمة، ليصاغ التاريخ على مزاجهم بطريقة يضمنون بها استمرار المشروع واستمرار السيطرة على مقدرات الشعوب”.
ما أهمية هذه المراجعات؟
هذه المراجعات لتاريخ وذاكرة الشعب السوري يراها كثر ضرورية للغاية، خاصةً وأن الكثير من المراجع الموجودة لا تنفصل عن الظروف السياسية التي مرت بها البلاد، والانتماءات الفكرية أو الطائفية أو السياسية للعديد من المؤرخين أو السياسيين ممن وضعوا كتبًا ومراجع تاريخية يعتمد عليها عشرات الباحثين العرب أو الأجانب في أثناء بحثهم في تاريخ بلد يحمل تعقيدات كثيرة على جميع المستويات تقريبًا.
خاضت سوريا منذ سقوط الدولة العثمانية وبعد الاستقلال بشكل رسمي عن فرنسا عام 1946 عشرات الصراعات والحروب، كمعارك الاستقلال عن فرنسا السياسية والعسكرية، وحرب فلسطين عام 1948، ومساعدة مصر سياسيًا في 1956، ونكسة 1967، وحرب تشرين 1973، والدخول في الحرب الأهلية اللبنانية 1975، والاجتياح الإسرائيلي 1982، والمعارك مع الطليعة المقاتلة في الثمانينيات وغيرها. |
بالإضافة إلى الاضطرابات السياسية الناتجة عن الانقلابات العسكرية التي ضربت البلاد، والوحدة السياسية مع مصر 1958-1961، وانقلاب البعث 1963…
كتابة التاريخ من جديد يراها زين العابدين حاجة ملحة، خاصة وأن سوريا تعيش مرحلة إعادة التشكل السياسي في المرحلة التي اصطلح على تسميتها “الربيع العربي”.
ولا يمكن إعادة البناء السياسي والتشكيل الوطني في الجمهوريات العربية المتداعية بمعزل عن تاريخ المنطقة العربية وتجاربها المتعددة منذ انهيار الحكم العثماني.
ويرى زين العابدين أنه “لكي تثمر الثورات الشعبية في الجمهوريات العربية، وتتحول إلى ربيع حقيقي، يتعين أن تعقب حقبة انهيار الحكم الشمولي حركة تحقيق تاريخي تسهم في صياغة الهوية الوطنية على أسس علمية”.