تحت السلك.. ماري كولفن كما هي

  • 2019/07/07
  • 12:00 ص

نبيل محمد

هكذا يعمل الصحفيون في حروب من مستوى الحرب في سوريا، وهكذا يقع المراسل الحربي في غمرة الانتقاء ما بين التقاط بعض الصور والسِّيَر، ثم العودة إلى بلاده بأقل الخسائر النفسية والجسدية، وبين الإقامة مع السكان المحليين، ليعيش حياتهم ويفهمها تمامًا، ويتجنب الرصاص بالأدوات ذاتها التي يتجنبه السكان فيها، يأكل بضع حبات من الأرز المقسم على عدد السكان المتبقين في الحصار. تتعرض حياته للخطر مثلهم، يحمي أطفالهم، يدفن موتاهم، يغني بصوتهم، ويموت مثلهم تمامًا.

النموذج الأوضح للخيار الثاني هو ماري كولفن، مراسلة “ساندي تايمز” في حمص، التي قتلتها آلة النظام السوري الحربية، بعد إقامتها في الحصار في حي بابا عمرو. سيرة عمل وثَّقها فيلم تحت السلك من إنتاج “BBC”، بحرفية ومهنية مستمدة من حرفيتها من نقل الواقع كما هو حرفيًا.

ليسوا كثرًا من بقوا ليرووا حياة كولفن في حمص، المحطة الأخير لصحفية اعتادت العمل في الحروب، من سريلانكا إلى فلسطين وليبيا وغيرها. لكن طاقم الصحفيين الذين بقوا مع كولفن في الحصار، وأهمهم المصور المرافق لها بول كونري، الذي لم توفره القذائف أيضًا، إذ أصيب إصابات بليغة ليلة مقتل زميلته، كانوا كفيلين برواية الحكاية. ما عايشه كونري قاله في الفيلم، مترافقًا مع صوره التي كانت من أهم الوثائق التي خرجت من حمص، بما تحمله من مكنونات توثيقية إنسانية بارعة، صنعتها مأساة حمص قبل كل شيء.

في “تحت السلك” الذي أنتج عام 2018، وعرض مؤخرًا في عدة مهرجانات عالمية، وسيعرض خلال فعاليات مهرجان وثائقيات سورية في اسكندنافيا مطلع أيلول المقبل، الذي تقيمه منظمة فنجان في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، يظهر عمق الانتماء للمهنة في طرازها الإنساني بما تقوم به الصحفية والمصور، إلى جانب صحفيين آخرين فرنسيين، وناشطين من حمص، والمترجم وائل الذي كان اللسان العربي لكولفن وزميلها، والذي كانت له اليد الطولى في خلق التواصل بين الصحفيين والمجتمع المحلي في حمص.

أدرك مخرج الفيلم الإنجليزي كريس مارتن، أن وثائقيًا يحكي قصة ماري كولفن وزملائها، وقصة حمص، وحصار بابا عمرو، هو ليس مجرد توثيق يضمن إيصال المعلومة كاملة، فليست هناك معلومة كاملة يمكن أن تصل عن تلك المرحلة وعن شخوصها، لأن مجمل أنواع اللغات من بصرية إلى سمعية إلى محكية، كانت قاصرة عن نقل الصورة تمامًا آنذاك، لذا يلجأ المخرج إلى فرادة وثائقية حقيقية، في المونتاج، وترتيب الأحداث، وموازنة الصورة مع الشهادة المحكية، ويصل حد مطابقة التوثيق مع واقع الحياة المعاش، بما ينقله من أحداث بطريقة مزدوجة، حيث ينقل الصورة التي التقطها المصور بمرافقة الصحفية كاملة على حقيقتها، ثم ينقلها حينما نقلتها وسائل الإعلام التي تناقلتها عن كولفن، ويوفر دعمًا ثالثًا في كثير من الأحيان بكاميرات أخريات التقطت كولفن وكونري خلال توثيقهما للحدث، فنجد طفلًا ممددًا على سرير يلفظ أنفاسه الأخيرة رغم قرب المشفى من مكان وجوده، فالتنقل مستحيل تحت جحيم الطائرات الحربية، نجده في كاميرا كونري وفي كاميرا ناشطين صوروا كولفن وكونري في أثناء وجودهما في الحدث، ونجده أيضًا على الشاشات التي نقلت الحدث.

بين هذه الصور وتلك، وضمن ما يعج من تطابق، يلعب صوت كونري في رواية الحدث الدور الأهم الذي يستخلص منه معناه العام والخاص، ومعنى وجوده ووجود كولفن هناك، ومعنى رفضهما لمغادرة المكان… المغادرة التي لم تكن طوعية، والتي نجا بها كونري بحياته وحيدًا بعد مقتل كولفن.

سجائر كولفن، أوراقها وأقلامها، عينها (كانت قد فقدت عينًا في سريلانكا في أثناء التغطية الحربية)، ركضها اليوم بين منزل مدمر ومشفى ومقبرة، يتيح قراءة واضحة لشخصيتها، الشخصية التي لم يركز الفيلم على الإحاطة بها، في فوضى الحدث وكثرة ما لدى المتحدثين من قصص، إلا أن لكولفن كاريزما ثابتة وواضحة، كاريزما إنسان أعطى الكاميرا مكانها الحقيقي الذي لا تهتز فيه، ولا تغلق عدستها، ولا تتراجع للخلف… أعطى الكاميرا معناها الإنساني حدَّ الموت.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي