لا يدخل رئيس نادي ريال مدريد، فلورنتينو بيريز، سوق الانتقالات الصيفية إلا ويحصل على مبتغاه. يعرفه الكثيرون باسم “القرش الأبيض”، ويعتبر واحدًا من أهم الشخصيات في كرة القدم الإسبانية والعالمية إضافة إلى كونه رجل أعمال مرموقًا.
بنى بيريز نفسه من الصفر، وأعاد ترتيب أوراق البيت الملكي من تحت الصفر، بعد أن كان بيتًا هشًا مديونًا مرتبطًا بتاريخ باهر وبمستقبل مجهول.
دخل بيريز خطى الكرة كما دخل الاقتصاد فبنى أسطورتين باتتا الأشهر في العالم، إذ تعرف الشركة التي يديرها بيريز بأنها واحدة من أكبر شركات المقاولات حول العالم، في حين يتصدر ريال مدريد الأندية من الناحيتين الاقتصادية ومن ناحية الألقاب على صعيد القارة الأوروبية.
بيريز معروف كرئيس لريال مدريد، ولكن كيف وصل إلى سدة حكم البيت الأبيض الملكي الإسباني، وكيف صعد في عالم الأعمال؟
العصامي النهم للسلطة والمكانة
ولد فلورنتينو بيريز في آذار من عام 1947 في العاصمة الإسبانية مدريد، ودرس الهندسة المدنية في جامعة “لا بوليتكنيك” في مدريد، وعمل في الحكومة خلال سنواته الأولى، محاولًا الاقتراب من السلك السياسي قبل أن يتفرغ لإدارة أعماله.
بدأ الشاب الطموح العمل في مجلس بلدية مدينة مدريد، بدور إداري بسيط، قبل أن يكلف بالإشراف على مشروع الطرق العامة في إسبانيا، ليُعرض على فلورنتينو منصب في وزارة الأشغال العامة والنقل في إسبانيا.
المنصب الجديد لم يُشبع طموح الشاب، عندها قرر المهندس الدخول في السياسة وانتخب أمينًا للحزب الديمقراطي الإصلاحي (PRD)، ولكنه لم يبق طويلًا، فبعد الانتخابات الإسبانية عام 1986، حُل الحزب بسبب عدم حصوله على عدد كافٍ من الأصوات ليحصل على تمثيل في البرلمان.
وفي قرار جريء، تخلى بيريز عن حياته السياسية بحثًا عن مكانة أفضل، ودخل عالم الأعمال ليخوض تجربة جديدة مع مجموعة من الأصدقاء، فاشترى شركة “Padrós”، وهي شركة بناء صغيرة مفلسة، تمكن من جعلها رابحة بعد فترة، ومن دون علم، وضع بيريز حجر أساس لإمبراطورية اقتصادية كبيرة.
أنمى بيريز أعماله واستثمر صناعة البناء المزدهرة في إسبانيا، وحصل على العديد من العقود لشركته الجديدة، حتى صارت الشركة واحدة من القوى المحركة للاقتصاد الإسباني، على مدار العقود القليلة الماضية.
وفي عام 1993، دمج بيريز شركته الصغيرة مع شركة أخرى وأنشأ شركة “ACS” التي باتت واحدة من أكبر شركات المقاولات في العالم.
لم تشبع النجاحات المالية الكبيرة التي حققها بيريز طموحه في القيادة والسلطة، فاتجه لشغل المنصب الشاغر في ريال مدريد، سنة 1995، حينما كان رئيس النادي حينها رامون ميندوزا، الذي يعاني من ضغط ديون ضخمة، ولكن محاولات “القرش” باءت بالفشل في أول محاولة، وفاز ميندوزا، فعاد بيريز لشركته.
لكن تعطش بيريز للسلطة لم يهدأ، واستمر في مغازلة البيت الأبيض الملكي، وفي عام 2000، قرر بيريز أن يحاول مجددًا الوصول لرئاسة ريال مدريد، ولكن هذه المرة مختلفة إذ اتخذ بيريز أخطر مقامرة في تاريخ النادي.
كيف وصل بيريز إلى عرش ريال مدريد؟
المقامرة التي اختارها بيريز من شأنها أن تدفع به إلى الشهرة والسلطة وتحقق أحلام العظمة لديه، ولكن في حال فشل قد تعيده إلى نقطة البداية حينما كان مهندسًا صغيرًا.
في صيف عام 2000، كان لويس فيغو في ذروة حياته المهنية، وكان قائدًا لنادي برشلونة، الغريم الأزلي لريال مدريد، ورمزًا للفريق، ورغم ذلك أعلن بيريز أنه إذ أصبح رئيسًا فإنه سيوقع مع لاعب خط الوسط البرتغالي.
ووفق موقع “Vice News” فإن المرشح لرئاسة ريال مدريد، عقد صفقة مع وكيل أعمال فيغو، وطلب تأكيدات بأن فيغو سيوافق على هذه الخطوة في حال تفصيل عملية النقل، وإذا خسر بيريز الانتخابات الرئاسية، فإن اللاعب سيحصل على تعويضات كبيرة ليوافق اللاعب على الشروط.
إعلان بيريز عن نيته التعاقد مع فيغو، دفع مشجعي ريال مدريد للتصويت لصالحه، وفاز في الانتخابات التي خاضها مع لورينزو سانز، وبعد إعلانه رئيسًا توجه سريعًا لإتمام التعاقد مع فيغو، وكان نادي برشلونة عاجزًا عن التدخل لإيقاف الاتفاق بين الطرفين، فانتقل اللاعب مقابل 50 مليون يورو.
إمبراطورية ريال مدريد الحديثة
ورث بيريز مشاكل مالية خطيرة في النادي وتولى ديونًا بمبلغ 300 مليون يورو، وكان قادرًا على إنقاذ الموقف وانتشال النادي من أزمته، فاتخذ قرارات أثارت الجدل بالأوساط الرياضية الإسبانية، في سعيه لتخليص النادي من ديونه.
باع بيريز الأراضي التي يمتلكها ريال مدريد في شارع لاكاستيلانا بالقرب من وسط المدينة، بحوالي 500 مليون يورو بعد الحصول عليها من مجلس مدينة مدريد.
ومع تفكير جديد وسياسة مالية جديدة، تمكن بيريز من نقل النادي خطوة كبيرة إلى الأمام، فعّل فيها سياسته الجديدة باستحواذ السوق الكروية، حينما تعاقد مع “الغلاتيكوس” عام 2001، برز اسم بيريز واسم النادي معه.
وقع بيريز في “الغلاتيكوس” (مجرة النجوم) صيف 2001، رونالدو وزين الدين زيدان وربرتو كارلوس ولويس فيغو وديفيد بيكهام، فأضافت هذه التوقيعات لقبين من دوري الأبطال لخزينة النادي، ورفعت رصيد النادي الاقتصادي والتسويقي إلى مستويات عالية.
لخص موقع “Vice News” أيديولوجية بيريز بثلاث كلمات “الأعمال، المال، السلطة”، وبهذه الأيديولوجية متن بيريز علاقاته مع سوق الأعمال والأحزاب السياسية في إسبانيا إلى جانب قوته في السوق الكروية العالمية.
علاقة بيريز مع وسائل الإعلام هي أحد مفاتيح النجاح، فنما تأثيره وأصبحت سلطته مطلقة في النادي، فلديه سيطرة على جميع وسائل الإعلام في النادي، ويدير آلة دعائية ضخمة بفضل اتصالاته على صعيد عمله كرجل أعمال أو على صعيد عمله في السياسة أو على صعيد كرة القدم.
ترك بيريز رئاسة النادي عام 2006 وتولى المنصب بدلًا عنه رامون كالديرون حتى عام 2009، ليعود “القرش الأبيض” بدور المنقذ مجددًا بعد فترة متذبذبة شهدها النادي على صعيدي المنافسة الأوروبية والمحلية، ونجح في الانتخابات على الرغم من حملة مضادة لمنعه من الوصول إلى سدة قيادة النادي.
في الوضع العام، كمّ الرئيس المستبد أفواه المشككين بطريقة أو بأخرى، ولكن الوحيدين الذين وقفوا في وجهه هم أفراد رابطة مشجعي النادي المعروفة باسم “ألتراس سور“، وهي مجموعة من المشجعين المتطرفين، الذين عارضوا إدارته “الاستبدادية” كما عارضوا الكثير من قرارات الرئيس، فاستغل بيريز بعض حوادث العنف ووضعها كذريعة لحظر المجموعة.
في فترة رئاسته الثانية، ضرب بيريز مرة جديدة في سوق كرة القدم، وقام، فيما تعتبره الصحافة، بأكبر سرقة في تاريخ كرة القدم، حينما وقع مع كريستيانو رونالدو لاعب نادي مانشستر يونايتد، إلى جانب صفقات أخرى شكلت ما يعرف باسم “غلاتيكوس 2” فوقع مع البرازيلي ريكاردو كاكا والفرنسي كريم بنزيما والإسباني تشافي ألونسو، وجدد بيريز عام 2014 دماء النادي بالأرجنتيني أنخيل دي ماريا والألماني مسعود أوزيل، فحمل دوري أبطال أوروبا للمرة العاشرة في تاريخ النادي وفي عام 2016 بدأ ريال مدريد بالتسلق إلى زعامة أوروبا وتمكن من تحقيق لقب دوري أبطال أوروبا ثلاث مرات متتالية كأول نادٍ في التاريخ يقوم بهذا الإنجاز في تاريخ المسابقة الحديث.
في ظل التدخل القائم في سوق كرة القدم اليوم وارتفاع أسعار لاعبي كرة القدم، ومع قوانين اللعب المالي النظيف المفروضة من قبل الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، لجأ بيريز إلى فلسفة جديدة، هي شراء المواهب وتنميتها والاستفادة منها في حالتين إما بقميص ريال مدريد أو بسوق الانتقالات، فتعاقد بيريز مع مواهب شابة عديدة، من ضمنها النرويجي مارتن أوديغارد، والياباني تاكيفوسا كوبو، البرازيلي فينسيوس جونيور، ومواطنه رودريغو دي غويس، والإسباني براهيم دياز، وماركو أسنسيو وكذلك الأمر مع الإسباني داني كارفخال، من أبرز لاعبي الظهير الأيمن في العالم، والظهير الأيسر المغربي أشرف حكيمي، وحارس المرمى الأوكراني أندري لونين، وغيرهم العديد من الأسماء.
هذا الموسم، بدأ فلورنتينو بيريز ثورته الجديدة، بعد أن خمدت نار النادي في الكرة الأوروبية بخمسة تعاقدات من العيار الثقيل، عندما تعاقد مع البلجيكي إيدين هازارد، والفرنسي فيرلاند ميندي، والصربي لوكا يوفيتش، والبرازيلي رودريغو دي غويس، ومواطنه المدافع إيدير ميلتاو، والتي قد تعرف فيما بعد باسم “غلاتيكوس 3” بحسب النجاحات التي قد يحققها الفريق مستقبلًا.
وإلى جانب ثورته في سوق الانتقالات كان بيريز قد أطلق ثورة أخرى من شأنها أن تخلده مستقبلًا في السجلات التاريخية لنادي ريال مدريد كسلفه سانتياغو برنابيو وألفريدو دي ستيفانو، حينما نجح بالحصول على موافقة مجلس المشجعين المساهمين (سوسيوس) لتجديد ملعب سانتياغو برنابيو، والذي تصل كلفته إلى 525 مليون يورو.
بيريز بثروة تقدر بأكثر من ملياري دولار
يشغل بيريز منصب المدير التنفيذي لشركة “ACS” منذ عام 1997، ويمتلك ما يقرب من 13% من حصة الشركة المتداولة في البورصة.
وتعد الشركة واحدة من كبرى شركات المقاولات، بالإضافة لكونها واحدة من المنافسين العالميين في مجال الهندسة الصناعية والتطبيقية، مع مشاريع في أكثر من 50 دولة، يتركز نشاطها على تطوير وبناء وصيانة وتشغيل البنية التحتية للطاقة والتنقل.
ووفق موقع “Fornes” بلغت ثروة بيريز، حتى شهر تموز الحالي، 2.3 مليار دولار أمريكي.