نبيل محمد
تغني الأمهات لأطفالهن قبل النوم “هدوات” تختلف بكلماتها من منطقة إلى أخرى، وتشترك جميع هذه “الهدوات” بأنها تخرِج من حنجرة الأم عادة أجمل ما فيها، وتلعب بأنقى حبالها، وتبعث سكونًا ما في الطفل وما حوله، فيغفو. أغاني النوم البسيطة تلك، كانت مشروع المغنية الأوبرالية السورية ديمة أورشو في الألبوم الذي صدر مؤخرًا، والذي جمعت فيه أورشو “هدوات” مختلفة من مناطق سورية، لتعيد صياغتها فنيًا، وتضعها في قوالب موسيقية احترافية بمرافقة البيانو والإيقاع والكمان والفيولا والأكورديون، وتخرج منها ذلك النقاء الذي تبحث عنه في خصوصية هذه “الهدوات”، كونها ليست مجرد تحريض للطفل على النوم، أو ترددات صوتية ترافق تحريك الطفل في سريره أو على صدر أمه، إنما هي بوح ما من الأم للطفل، تحكي فيه الأم في أذن ابنها ما لا تحكيه في العلن، أو على الأقل هذا ما رأته أورشو في تلك الأغاني، وهو ما حرضها على اختيار هذه الأغنيات، وجمعها في ألبوم.
“هدوة– تهويدات لأحلك الأوقات” من حوران والشرق السوري والساحل ودمشق، وأخرى من أذربيجان، تسع قطع موسيقية وغنائية، ثمان منها هي “هدوات” النوم، وقطعة “رحلة إلى الغوطة” جديدة كليًا. بدأت “الهدوات” من “هدوة” واحدة كتبتها أورشو وأهدتها إلى أهالي الجزيرة والمنطقة الشرقية، حيث حصلت على الكلمات من إحدى صديقاتها التي كانت توثق ما تقول جدتها، فكانت كلمات تراثية ذات معنى وأثر، جعلت أورشو تنجز أغنية، ومن ثم تنهض بمشروع ثيمته هي تلك الأغاني، فبدأت بالبحث والتوثيق في مختلف مناطق سوريا عما تغنيه الأمهات لأطفالهن، وعن ألحان تلك الأغاني في التراث، وكلماتها الأصلية، فكانت “الهدوات”، التي يظهر أن ما فيها من شكوى وألم وصعوبة حياة، تجعلها صدى لأحلك الأوقات التي تمر بها تلك النساء، فيبحن به للطفل بنقاء وصدق، فينام.
“يا دايم.. تحفظلي عبدك النايم” كلمات لا تبدو غريبة على أحد ممن ناموا على أصوات أمهاتهم، أو من سمعوا أغاني أمهات يبتسمن لأطفالهن ويغنين لهم قبل النوم، قد تختلف تلك الكلمات بتفاصيلها، وبطريقة نطقها، وببناء جملها، إلا أنها متشابهة بثيمتها، ثيمة دعاء الأم للطفل بالحفظ والصون والحياة الهانئة، والتي غالبًا ما تشكل مطالع الأغنيات أو لوازمها، بينما يكون الشوق لأحد ما، والشكوى من ألم غيابه ثيمة أخرى تتردد في “الهدوات”، “بالليل أراهم، وبالدنيا أتمناهم، وشقد أصبرك يا قلبي ما تصبر بلياهم.. أنتم تنامون، وعين الله ما نامت، وكل شدة على المظلوم، لا والله ما دامت” تلك الكلمات وبلهجة مردديها، كانت مفتاح الوصول إلى القطعة الموسيقية المرافقة التي ألفتها أورشو، فكما أن للأغنية وقعًا يغفو فيه الطفل على الرغم من قساوة معانيها أحيانًا، المعاني التي لا يفهمها الرضيع، ويكتفي بالابتسام لصوت أمه، كان للموسيقى المكتوبة بعناية مكان مريح وانسيابي للكلمات، تستطيع من خلاله الجملة الموسيقية الاستمرار مديدًا ما بعد انتهاء الجملة، كتنهدات الأم وآهاتها أو الأدوات التي تطلقها بلطف عندما تنتهي الجملة التي تغنيها، أو عندما تنسى بعض الكلمات، أو تحاول إضافة شيء ما في ذهنها يمكن أن يبدو مناسبًا لـ”الميلودي”.
كل ما يحيط بنا من سواد، وظروف حالكة، ظروف هي “أحلك الأوقات” تمامًا، بحاجة إلى موسيقى للهدوء والنوم، لترانيم تراثية، ولاستذكار أصوات أمهاتنا، نواجه بها اضطرابات النوم وصعوباته، آلام الظهر المتأتية من الضغط اليومي والكآبة، الكوابيس الملونة بمستويات الأسود والرمادي، استبدال الفراش بآخر أكثر ليونة منه، أو بأكثر قساوة، أدوية النوم التي نحاول عدم الانتظام في تناولها كي لا تغدو إدمانًا. النوم بات صعبًا، لعلَّ للموسيقى فعل ما يهوّن مروره إلى الجسد.