إبراهيم العلوش
إذا كانت بريطانيا قد حولت مستعمرتها الأسترالية إلى موطن لسجنائها في عام 1788، فإن روسيا اليوم حولت مستعمرتها السورية إلى ميدان لتجريب أسلحتها وتدريب ضباطها وتصريف ما تبقى من أسلحة الديناصور السوفييتي، فهل وصلت روسيا إلى سوريا متأخرة كل هذا الزمن عن عصر الاستعمار!
مع استمرار القصف على إدلب، تواصل الطائرات الروسية قصف القرى والمدن السورية منذ خمسة وأربعين شهرًا (بوتين زعم في أيلول 2015 أنه سينجز المهمة خلال ثلاثة أشهر فقط). وكان التهجير سياسة روسيا الاستراتيجية، بهدف إرعاب أوروبا من سيول المهاجرين السوريين الذين تسوقهم الطائرات الروسية والبراميل الأسدية، فارين من بيوتهم ومن بلدهم إلى الدول المجاورة وغير المجاورة، وقد تميزت الاستراتيجية الروسية مع حليفتها الإيرانية برفض قبول أي لاجئ سوري في بلدهما مهما كانت المبررات والأسباب الإنسانية أو غير الإنسانية. بل إن بوتين، في خطابه أمام قمة العشرين التي انعقدت الجمعة 28 من حزيران في اليابان، وجه اللّوم إلى ألمانيا وأوروبا التي استقبلت اللاجئين السوريين الذين فروا من صواريخ طائراته!
في الأسبوع الماضي خاطبت الأمم المتحدة الاتحاد الروسي مستفسرة عن مصير الإحداثيات التي أعطتها المنظمات الأممية لروسيا، والتي تحدد مواقع المستشفيات والمدارس في مدينة وريف إدلب، وعن أسباب وقوعها ضحية القصف الروسي وقصف براميل النظام الذي يأتمر بالأوامر الروسية، فما كان من الدبلوماسية الروسية إلا الاستهتار بالتحذير الأممي والتنطع بمحاربة الإرهاب، مستلهمة السوابق السوفييتية في الأمم المتحدة التي كان أشهرها رفع خروتشوف الزعيم السوفييتي السابق حذاءه في الأمم المتحدة عام 1960، وضربه على الطاولة مستهترًا بالأنظمة وبالقوانين الدولية، ومستقويًا بصواريخه وبقنابله النووية التي لا تقيم وزنًا للقيم الإنسانية ولا للقوانين الدولية، سواء كانت هذه القيم تتعلق بالمواطنين الروس أو بالمواطنين عبر العالم، وكان الرئيس السوفييتي حينها يعترض على احتجاج أحد الوفود الأممية على الإجراءات الوحشية للروس في أوروبا الشرقية.
تمتد دولة روسيا الاتحادية التي كانت تشكل 80% من الاتحاد السوفييتي السابق، على أكبر مساحة تحتلها دولة لوحدها، وهي مترامية الأطراف من أوروبا غربًا إلى اليابان في الشرق الآسيوي الأقصى شرقًا، ومن البحر الأسود جنوبًا إلى القارة القطبية الشمالية، وهي حتمًا ليست بحاجة إلى مساحات لتجريب أسلحتها وغازاتها الكيماوية، فلماذا تقوم بصبّ هذه الصواريخ والغازات السامة على الشعب السوري؟
ولماذا تستنكر رفض السوريين العيش في ظل مخابرات ومعتقلات الأسد التي أدارها الروس إبان تحالفهم مع الأسد الأب، وأسهموا بإبادة جيل الثمانينيات من شباب سوريا، سواء عبر الاختفاء القسري، أو عبر الاعتقال العلني، أو عبر إرعاب من بقي طليقًا في تلك الحقبة السوداء من تاريخ سوريا.
فحتى الشيوعيون، حلفاء موسكو، ممن لم يتنازلوا عن قيمهم النبيلة، ولم يرضوا بالأسد ولا باستبداد مخابراته، تم سوقهم بالألوف إلى معتقلات لا قرار لها، فالداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود، ولكنه قد يموت بعد أشهر أو سنوات نتيجة التعذيب والإرهاب النفسي والجسدي الممنهج الذي لاقاه في سجن تدمر وصيدنايا وفرع فلسطين والمزة والمنطقة والخطيب والدوريات، وما إلى ذلك من أماكن تعذيب أنجزتها الحركة التصحيحية التي فجرها “الأب القائد”!
لقد انتصر الروس على النازية في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، ولكنهم تشربوا أساليبها في التعذيب والتدمير، وتحول الحكم الشيوعي الذي كان ينادي ببناء أسس جديدة للإنسانية، وانقلب مع حكم ستالين إلى نظام استبدادي تدرب على أيدي الخبراء النازيين الذين تم اعتقالهم بعد تدمير ألمانيا، وقد مارست روسيا هذه الأساليب اللاإنسانية في أوروبا الشرقية، وفي داخل روسيا نفسها وخاصة في معتقلات الغولاغ، ومارستها أيضًا في الشيشان.
وما ممارساتها الحالية في سوريا إلا امتداد لنازية النخب السوفييتية السابقة وعدوانيتها التي تفاقمت بعد هزيمة الإمبراطورية السوفييتية على يد الدول الغربية في عام 1991، ولهذا السبب نجد أن الحزب الشيوعي الروسي، والأحزاب القومية الروسية، من أشد المؤيدين للحرب ضد السوريين، ومن الداعين إلى تدمير مدنهم وقراهم بتهمة أنهم عملاء للغرب.
الروس يقلدون النازيين وأساليبهم وهم يقصفون المستشفيات والمدارس، ويتهمون الشعب السوري بالإرهاب، وبالتآمر على نظام الأسد الذي أضحى دمية بين أيديهم، إنهم يقومون اليوم بدور الدولة الاستعمارية، فمناظر المهجرين والهاربين وتشردهم في البراري، وموتهم في البحار، وصور المعتقلين الذين تم تعذيبهم برعاية روسيا وتحت سمعها وبصرها، تذّكر العالم بطرق تعذيب العبيد، وبسفن شحنهم من إفريقيا قبل أربعمئة عام، وبنظام الإبادة الجماعية الذي قام به البلجيك في الكونغو، والإيطاليون في ليبيا، والفرنسيون في الجزائر، فطريقة القصف المسماة السجادة النارية المفروشة على المدن والقرى التي تدمر إدلب وريفها اليوم، قام بها الفرنسيون قبل سبعين سنة على الأقل في الجزائر.
اليوم وبعد هزيمة الدول الاستعمارية وانسحابها من مستعمراتها قسرًا أو اتفاقًا، وصل قطار روسيا الاستعماري إلى سوريا متأخرًا أكثر من مئة عام.
فهل تستطيع روسيا أن تعيد التاريخ إلى الوراء عبر انتهاكاتها لحقوق السوريين، وتدمير بلادهم، وفرض استمرار نظام استبدادي عليهم، أم أنها تضع سمعتها وهيبتها أمام هزيمة جديدة تجعلها ترتد مجددًا إلى زاوية مظلمة خارج المنطقة وخارج العالم، مثلما حدث لها عندما طُردت من أفغانستان عام 1989، الذي تلاه انهيار الديناصور السوفييتي!