من بين مناطق كثيرة استهدفتها نيران القناصة ورصاص الاشتباكات والقذائف، يعتبر كراج العباسيين من أكثر المناطق خطرًا وعرضةً للبارود والدم والاشتباكات في دمشق؛ حيث تجاوِر المنطقة حيي القابون وجوبر، اللذَين شهدت فيهما العاصمة أكبر المعارك بين جبهات المعارضة وقوات الأسد.
وجعل ذلك التنقل بين المحافظات السورية يشكل قلقًا حقيقيًا بالنسبة للسوريين، إذ يعدّ الكراج مركز انطلاق الميكروباصات والبولمانات من وإلى دمشق، والمرور من تلك النقطة الملتهبة، يعتبر القَدَر الذي لا مفر منه إلا إليه بالنسبة لكثير من المسافرين.
كراج العباسيين.. من بؤس إلى بؤس
لم يكن كراج العباسيين مكانًا محبّبًا للسوريين حتى قبل اندلاع الأحداث، فالمنطقة كانت دومًا أشبه بصحراء يغزوها الجفاف والرداءة، مسورةً بشباك حديدية جاعلة من المكان أشبه بمعتقل كبير، تملؤها أكياس رمل مكدسة بعضها فوق بعض ومغتسلة بالقذارة، تليها إطارات متتالية مصفوفة.
وإلى جانبها استراحات لا تشبه أماكن الراحة، عامرة بالفوضى مفتقرة إلى التنظيم، لا تصلها شبكة الاتصال إلا بصعوبة بالغة، «حتى الشمس فيها دبقةّ» تقول حنان، التي كانت تضطر أن تمر من كراجات العباسيين في طريقها من بيتها في دوما إلى جامعتها في «الهمك»، كل يوم.
لكن الحرب الدائرة في البلاد أحلّت الموت والرعب ضيفًا جديدًا على المشهد، فالصورة تكلّلت بدبابات متوارية خلف أبنية مهدمة، وببيوت موحشة مشرفة على البؤس تحيط بالمنطقة من كل جانب، إضافة إلى قناصين لا يكلّون ولا يملّون يصطادون العابرين عشوائيًا، إذ أصبح من المألوف هناك أن تشاهد مصابًا منزويًا إلى ركن أو رصيفًا مغتسلًا بدمه ولا أحد يقترب منه.
«كل ما أردت السفر إلى يبرود ودعت أصدقائي ونطقت الشهادتين»، تقول مريم، وهي طالبة في كلية الشريعة، تنتمي إلى القلمون التي تنطلق الرحلات إليها من الموقع المذكور.
من بوسعه أن يعلم إن كان الباص سيصل
يستقبل المسافر في الكراج رجال الأمن والجيش بأجسادهم الضخمة، وبزاتهم المموهة وبنادقهم المصوبة خلف طاولة لتفتيش الحقائب والتأكد من الهوية وتأجيل الجيش، فإن عبرها المسافر توجّه إلى الباحة الخارجية إن كان قاصدًا ركوب البولمان وإلى الباحة الداخلية إن كان يبحث عن ميكرو باص.
يتجه المسافر مدفوعًا بأمله ومتفرسًا في الوجوه باحثًا عمن لديه من العلم شيئًا عن مواعيد وصول الميكرو باص، حاملًا أمتعته وآماله، فإن أتاه الوعد انتظر، وإن عرف أن الحافلة لن تأتي، حمل حقائبه وخيبته وعاد أدراجه.
ورغم أن الكراجات لم تكن يومًا تحظى بتنظيم أو اهتمام، ولم يكن لديها جدول ثابت للرحلات، إلا أنه كان من الممكن قبل ثلاث سنوات أن يتصل المسافر بالمكتب الخاص بالبلد الذي يقصد السفر إليه، ويطلب أن يحجز له مقعدًا في الحافلة، أو يسأل عن وضع الباصات وأوقات انطلاقها، الأمر الذي لم يعد موجودًا الآن، ما يضطر المسافر لأن يذهب بنفسه إلى المكان وينتظر الباص مبتهلًا أن يحالفه الحظ ويجد ما ينقله.
وعندما سألنا أحد الأشخاص الذين يحاولون قدر المستطاع تنظيم حركة انطلاق وعودة الباصات، أجاب أنه بعد قصف مكاتب الكراجات لم تفتح من جديد، مضيفًا أنه لا عمل لها اليوم «فمن بوسعه أن يعلم إن كان الباص سيصل أم لا، غير رب العالمين؟».
وأردف «ارتفاع أسعار المازوت وندرة المحروقات إضافة إلى المخاطر المرعبة التي تحف الطريق وتأثيرها على امتلاء الحافلة بالركاب، جعل حركة الباصات ذهابًا وإيابًا في غاية الصعوبة».
سماسرة الأزمة
وسط ندرة وسائط النقل والحاجة الماسة للتنقل، تصبح البيئة مناسبة لتكاثر «سماسرة الحرب» و «محتكري الباصات» الذين يلعبون على وتر حاجة الناس واضطرارهم «الطلعة بألف للي بدو.. واللي ما بدو كيفو».
وهنا يجد المسافرون أنفسهم مضطرين لدفع مبلغ يساوي 4 أضعاف السعر النظامي لأجل الوصول، وحين سئل «الشوفيرية» عن استغلال الناس أجابوا أن من يعرف مشقة الحصول على المحروقات مثل البنزين والمازوت وخطورة عبور أماكن الاشتباكات لن يستغربوا إن ارتفعت الأجرة عشرة أضعاف.
وفي الوقت الذي لا تقدم فيه حكومة النظام أي حلولٍ لإنقاذ المسافرين، زاد عددُ المتعاملين مع فرق الأمن والشبيحة لنقل المسافرين إلى مقاصدهم عبر “خطوطٍ عسكرية” مقابل مبالغ طائلة قد تصل إلى 100 ألف ليرة، وفق بُعد المسافة وخطورة الطريق وحاجة المسافر.
لكنّ هذه الطريقة ليست مضمونة أيضًا، إذ شهدت الحواجز، التي تتعامل مع السائق بطبيعة الحال، اعتقال عددٍ من المسافرين على خلفية مواقفهم السياسية أو طلبهم للخدمة الإلزامية.
طرق الخلاص الفردي
المصاعب والتحديات الهائلة التي واجهت السوريين خلال السنوات الأخيرة علمتهم أن يخبزوا عجينهم بأيديهم ويحكوا جلدهم بظفرهم، فنجد أن بعض الطلاب مثلًا (وهم بالإضافة إلى المرضى أشد فئات المجتمع حاجة للتنقل)، تعاقدوا مع باص خاص ليوصلهم إلى مدينتهم من منطقة الصناعة، حيث يتفقون على وقت محدد ليلتقوا فيه.
ورغم أن ذلك يكلفهم مبالغ مضاعفة إلا أنه «مافي شي أغلى من الروح» كما تقول آية، وهي طالبة صيدلة.
طلاب آخرون قلّصوا عدد مرات زيارة أهاليهم، من مرة كل أسبوع، إلى مرة كل شهر وأحيانًا كل شهرين، وآخرون أصبحوا يوقتون سفرهم على مواعيد أقاربهم القادمين أو العائدين من العاصمة حيث يذهبون معهم في سياراتهم الخاصة أو يستأجرون سياراتٍ، مثل «رفا» التي تقصد دمشق من أجل جرعات الكيمياوي، وتقول: «كابوس المرور بكراج العباسيين أسوأ بمرات من كابوس جرعات الكيماوي».
لعله من الصحيح أن ما هو أسوأ من البشاعة بحد ذاتها هو أننا ألِفناها، لكن السوريين يتساءلون: ماذا بوسعنا غير أن نعتاد؟ ولعل الجواب الوحيد وسط عدم مبالاة المسؤولين واستمرار الصراع دون أمل بانفراج للأزمة هو: لا شيء آخر.
ويضيف أبو أمين من القلمون «إذا كان السفر قطعة من العذاب أيام الجمال والخيول، فهو قطعة من الجحيم في زمن السرافيس والبولمانات والميكروباصات».