مراد عبدالجليل | ضياء عودة | محمد حمص
من خلفه شعار الدولة العثمانية وعلى يساره صورة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وعلى يمينه صورة أخرى لمؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك. ولولا وجود علم الثورة السورية إلى جانب العلم التركي وعبوة المياه البلاستيكية المصنوعة في تركيا، لبدت الصورة لموظف حكومي تركي.
“أبو عمشة”، القائد العسكري في ريف حلب، الذي يتوسّط الصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في بداية أيار الماضي، أثار الجدل مرات عدة حول تبنّيه المظاهر التركية على حساب إبراز الهوية السورية.
يقود محمد الجاسم، المعروف بـ “أبو عمشة”، فصيل “سليمان شاه” الذي أُسس عام 2016، وينضوي تحت “الجيش الوطني” المدعوم تركيًا، ويتركز نشاط الفصيل في مدينة عفرين بريف حلب الشمالي.
صورة أبو عمشة هي جزء من صورة أعم عن واقع المناطق الشمالية لمحافظة حلب، والتي ظهر فيها الطابع التركي ثقافيًا ومدنيًا وعسكريًا وخدميًا خلال العامين الماضيين.
حديقة “الأمّة العثمانية”، ساحة “رجب طيّب أردوغان”، مدرسة “بولانت آل بيرق”، وغيرها من الأسماء كرّست الصبغة التركية في مدن وبلدات وقرى ريف حلب، أما على المستوى المدني والخدمي، فبات “السيستم التركي” جزءًا من معاملات السوريين في المنطقة، واللغة التركية “إلزامية” يدرسها جزء من الطلاب في المدارس.
يترك ذلك الواقع تساؤلات حول الدافع وراء تعميم الطابع التركي في المنطقة، والجهة المسؤولة عنه، كونه يعدّ مبررًا لمخاوف جزء من السوريين ومبعث استقرار لآخرين.
ترصد عنب بلدي في هذا التحقيق بروز الطابع التركي في مناطق شمال حلب، وتسلط الضوء على الجهات المسؤولة عنه ودور الحكومة التركية والمسؤولين المحليين في ذلك، بهدف استشراف مستقبل المنطقة وما ستؤول إليه أمورها.
سياسة موجهة أم مبادرات عفوية
المجالس المحلية في ريف حلب بطابع تركي
بعد قرابة عامين على سيطرة فصائل المعارضة المدعومة من تركيا على ريف حلب الشمالي، بدأت المنطقة تأخذ طابعًا تركيًا على المستويات المدنية والخدمية بسبب الاهتمام الكبير لأنقرة بالمنطقة ودعمها لمشاريع اقتصادية واستثمارية وفرت مصدر رزق للسكان.
عملية “درع الفرات” العسكرية
انطلقت في 24 من آب 2016، بقيادة تركيا، وشارك فيها مقاتلون من “الجيش الحر”، سيطروا على مساحات واسعة من ريف حلب الشمالي كانت بيد تنظيم “الدولة الإسلامية” و”قوات سوريا الديمقراطية”. وعلى الرغم من إعلان انتهاء عمليات “درع الفرات” في آذار من عام 2017، إلا أن الفصائل المعارضة المدعومة تركيًا، سيطرت في آذار 2018 على منطقة عفرين بالكامل، لتضيف 2٪ من مساحة سوريا إلى المنطقة التي باتت تسمى باسم العملية العسكرية التركية. |
وكانت تركيا قد تدخلت في ريفي حلب الشمالي والشرقي عسكريًا، في شهر آب 2018، حين أطلقت عملية تحت مسمى “درع الفرات”، تمكنت من خلالها مع فصائل “الجيش الحر” التي تدعمها من السيطرة على مساحات واسعة من يد تنظيم “الدولة الإسلامية”، كانت أولها مدينة جرابلس الحدودية.
وتركز الاهتمام التركي عقب سيطرة الفصائل على المنطقة، على الجانب العسكري، والذي تمثل بتشكيل “الجيش الوطني”، إضافة إلى الجانب المدني عبر دعم تشكيل المجالس المحلية في مناطق ريف حلب، والتي لعبت دورًا خدميًا كبيرًا في تأمين متطلبات الأهالي في مجالات مختلفة، مثل الإغاثة والصحة والتعليم، إضافة إلى تطوير البنية التحتية، ما مهد الطريق لدخول مجالات الاستثمار بمشاريع اقتصادية كبيرة ونشاط اقتصادي.
وتحولت هذه المجالس إلى ما يشبه التجمع الحكومي الذي يشرف ويدير شؤون المنطقة الجغرافية التي يوجد بها المجلس (مثل المجلس المحلي في الباب أو أعزاز أو جرابلس وغيرها)، وتكون هذه المجالس مدعومة من قبل الولايات التركية القريبة من الحدود السورية، مثل ولاية كلّس وغازي عينتاب، في ظل غياب أي دور للحكومة السورية المؤقتة.
مصدر مقرب من المجالس المحلية، طلب عدم ذكر اسمه، أوضح لعنب بلدي أن المجالس المحلية مرتبطة من الناحية السياسية بالحكومة المؤقتة وتعتبر تابعة لها، لكن لا توجد آلية ناظمة للتبعية تنظم العلاقة بين الطرفين، إذ يملك كل مجلس مشاريعه الخاصة التي ينفذها بدعم تركي، دون وجود دور فعليّ للحكومة المؤقتة.
وتتسم المجالس المحلية بالاستقلالية، ويغيب التنسيق فيما بينها، إذ ينفذ كل مجلس المشاريع المناسبة لمنطقته بحسب دراسة واقع المنطقة، وذلك رغم وجود مشاريع موحدة بين المجالس كافة، كونها تستهدف المنطقة كاملة، مثل مشروع التعليم والشرطة، بحسب منذر سلال، رئيس “لجنة إعادة الاستقرار”، المسؤولة عن دعم عمل المجالس المحلية.
وأوضح سلال لعنب بلدي أن اللجنة سعت في كثير من الأحيان إلى جمع المجالس وتوحيدها، عبر سن نظم وقوانين تتعلق بالعقود والتوظيف إلى جانب توحيد نظام الجباية، إضافة إلى توحيد “اللوغو” (الشعار) الخاص بالمجالس، مؤكدًا أن هناك خططًا للسير قدمًا نحو وجود إدارة موحدة لجميع المجالس.
أموال المجالس في بنوك تركيا
عملت تركيا خلال العامين الماضيين على ربط المجالس المحلية في ريف حلب الشمالي بها عبر دعمها وتوفير الوسائل التي تساعدها على تقديم خدماتها، إلى جانب صرف رواتب الموظفين ونفقات المشاريع عن طريق البنوك التركية، التي توضع بها الأموال الخاصة بكل مجلس.
وشرح مصدر مطلع على عمل المجالس، طلب عدم ذكر اسمه، لعنب بلدي، آلية تنفيذ المجالس في المنطقة لأي مشروع تريد القيام به، موضحًا وجود نوعين من المشاريع التي يتم تنفيذها في المنطقة، الأول مشاريع استراتيجية بدعم وتنفيذ مباشر من تركيا، مثل الكهرباء والماء، على أن يتم دفع الجباية لها، إضافة إلى تقديمها خدمات دون أجر مثل حاويات القمامة وإقامة الحدائق.
أما النوع الثاني من المشاريع فهي التي تقوم بها المجالس، إذ يملك كل مجلس محلي مصادر التمويل الخاصة به من الجباية (ضرائب ومواصلات ومعابر وغيرها)، وتوضع هذه الأموال في بنك بتركيا باسم المجلس تحت إشراف الولاية التركية.
وأوضح المصدر أن المجلس يقدم خطة عمل ودراسة حول المشاريع التي يريد تنفيذها في منطقته وقيمة هذه المشاريع إلى الولاية التركية، التي تقوم بدورها بتحويل الأموال عن طريق مؤسسة البريد التركي “PTT” في حال تمت الموافقة عليها، بعد التأكد من أنّ هذه المشاريع غير وهمية وأنها ستنفذ وفق المخطط، معتبرًا أن ذلك يمنع السرقة والاختلاس من قبل ضعاف النفوس.
كما تقوم الولاية التركية بتحويل رواتب الموظفين، المعروف عددهم لديها، وقيمة المشاريع شهريًا، بحسب المصدر، الذي أشار إلى أن الراتب يكون بالليرة التركية ومحددًا وفق معايير تركية وليس وفق رئيس المجلس.
وحول الدور التركي في هذه المشاريع، أكد المصدر أن تركيا تلعب، من خلال التنسيق الإداري بينها وبين المجالس، دورًا إشرافيًا ومدققًا ومطلعًا على التنفيذ ولا تتدخل باسم المشروع، ولا تتدخل إلا في الحالات التي تمس أمن تركيا.
في حين أكد سلال أن المجالس المحلية مستقلة بذاتها، ولكن توجد تبعية استشارية لتركيا، إذ إن الحكومة التركية ترسل مستشارين لتطوير عمل المجلس.
وحدد سلال بدوره أربعة مصادر تمويل للمجالس المحلية، الأول من لجنة إعادة الاستقرار، لكنه متوقف حاليًا بسبب توقف الدعم من الدول ويجري العمل على إعادته، والثاني من المنظمات الإنسانية، إضافة إلى الدعم المقدم من قبل الحكومة التركية، أما المصدر الرابع فيكون عن طريق موارد المجلس.
وتخلو مناطق ريف حلب، الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية، من وجود بنوك أو مصارف سورية، وهو ما قد يبرر لجوء المنظمات والمؤسسات العاملة في مناطق الشمال إلى إيداع أموالها في تركيا.
في حين افتتحت السلطات التركية في بعض مناطق ريف حلب مراكز لمؤسسة البريد التركي (PTT)، وأجبرت المنظمات العاملة فيها، المحلية والأجنبية، على تحويل الأموال للداخل السوري عبر هذه الخدمة، كما منحت الموظفين في تلك المناطق، من معلمين وشرطة ومجالس وأطباء وخطباء، بطاقات مصرفية لسحب رواتبهم من مراكز “PTT”.
واتجهت تركيًا مؤخرًا إلى تقييد حركة الأموال الداخلة إلى سوريا، وضبطها من خلال نظام الحوالات التركي، بعد أن كانت تتم عبر صرافي السوق السوداء.
أسماء المشاريع.. من يقترحها؟
نهاية شهر أيار الماضي أعلن المجلس المحلي في أعزاز عن إعادة افتتاح إحدى الحدائق العامة في المدينة، مطلقًا عليها اسم “حديقة الأمة العثمانية”، الأمر الذي لاقى جدلًا كبيرًا بين السوريين وأعاد الحديث عن تسميات عثمانية عدة أطلقت مؤخرًا على أماكن ومؤسسات في المنطقة، وسط اتهامات لتركيا بمحاولة “تتريك” المنطقة، وللمسؤولين المحليين بالتبعية المباشرة لتركيا.
وللوقوف على آلية اختيار أسماء المشاريع التي تنفذها المجالس المحلية، تواصلت عنب بلدي مع عدد من مسؤولي المجالس عبر “واتساب”، ووجهت لهم عددًا من الأسئلة، ومنهم رئيس المجلس المحلي في مدينة الراعي، ومدير العلاقات العامة والإعلام في المجلس المدني في مدينة الراعي، ونائب رئيس المجلس المحلي في عفرين، وجميعهم تعاملوا مع الأسئلة إما بالتجاهل أو بطلب تأجيل الرد.
أما رئيس المجلس المحلي في أعزاز، محمد حمدان، فرفض الإجابة، واكتفى بالقول إن هذه الأسماء هي “إسلامية وليست تركية”، طالبًا التواصل مع المكتب الإعلامي في المجلس والذي بدوره طلب، بعد التواصل معه، مراجعة رئيس المجلس، معتبرًا أن هذه المواضيع “خاصة”.
من جهته قال رئيس المجلس المحلي في الباب، جمال عثمان، إنه “موضوع معمول به في معظم دول العالم، أن تتم تسمية شوارع أو حدائق بأسماء من قاموا بأعمال أو مشاريع، أو من استشهدوا على هذه الأرض”، مضيفًا، “الكل يعلم أن إخوتنا الأتراك قدموا دعمًا غير محدود، وقدموا دماء طاهرة سالت على هذه الأرض لتحريرها من تنظيم داعش الإرهابي”، لكنه في النهاية أكد أن الأسماء كانت من اختيار المجالس المحلية وليست فرضًا تركيًا.
من جهته أوضح منذر سلال، رئيس “لجنة إعادة الاستقرار” في ريف حلب، أن اختيار الأسماء يتم بعد اقتراح المجلس المحلي، الذي يجتمع ويقرر اسم المشروع، مؤكدًا أن الأسماء ليست بأوامر تركية، قائلًا إنه شهد في أحد الاجتماعات غضب مسؤول تركي على أحد المجالس بسبب رفعه للأعلام التركية بشكل واسع دون رفع أعلام الثورة السورية.
وحول الزيارات المتكررة لشخصيات تركية إلى المنطقة، وعلاقتها باحتمالية فرض الطابع التركي، اعتبر سلال أن ذلك يأتي لتنسيق شؤون المنطقة، كون تركيا هي الجهة الداعمة للمشاريع والخدمات، إلى جانب الأمور العسكرية، ما يتطلب وجود مندوب عن الوالي ينسق بين الولايات التركية وبين المجالس المحلية لتقديم التسهيلات لعمل المجالس.
المجلس التركماني: هذا وفاء وعرفان للأتراك
يعتمد “المجلس التركماني السوري” (أُسس عام 2013) في خطابه على ذكر المسمى القديم لمدينة الراعي بريف حلب الشمالي، وهو “جوبان بيه”، ويعتبر أن الأمر لا علاقة له بإضفاء طابع تركي على المنطقة، بل هو استعادة الاسم الحقيقي للبلدة الحدودية مع تركيا، والتي غيرت الحكومة السورية في عهد الأسد اسمها إلى “الراعي”، كغيرها من قرى وبلدات المنطقة، وفق ما يؤكده رئيس المجلس، محمد وجيه جمعة، لعنب بلدي.
يشكّل تركمان حلب الأغلبية التركمانية السورية، ويتوزعون في مدن منبج والباب وجرابلس وأعزاز، إلى جانب وجود كبير في بلدة الراعي (جوبان بيه)، ويوجد في شمال محافظة حلب قرابة 145 قرية تركمانية، وفق دراسة تحت اسم “من هم تركمان سوريا عبر تاريخهم الطويل؟”، للباحث والسياسي التركماني علي أوزتركمان. |
ويضيف جمعة أن الناس يحاولون في إطلاق التسميات عمومًا أن يتفقوا على نقاط مشتركة يراد ترسيخها في المجتمع، ويتابع، “في بعض الأحيان من الممكن أن تكون التسميات لتخليد إنسان ذي قيمة معنوية في المجتمع على رأسهم الشهداء، ومن ناحية أخرى تُطلق التسميات من منطلق التأكيد على القيم الإنسانية لبث روح التشاركية وكذلك التطلعات المستقبلية”.
ويربط جمعة إطلاق أسماء تركية في الشمال السوري بـ “الدعم التركي للثورة”، معتبرًا، “الانتصارات” في المنطقة هي بفضل التعاون مع الأتراك ودعمهم، “الذي يرقى الى درجة التآخي”، بحسب قوله.
ويضيف رئيس المجلس التركماني، “نحن وإخوتنا الأتراك متفقون على أن نكون يدًا واحدة ضد الظلم وأشكاله، والمتمثل بالنظام السوري الاستبدادي وكل أشكال الاٍرهاب”.
ويشدد جمعة على وجود علاقات مشتركة مع الأتراك، ويظهر ذلك، وفق تعبيره، “بما قدموه على المستوى الدبلوماسي والسياسي والعسكري، من أجل توفير الأمن والأمان ولحماية السوريين في إدلب وريف حلب”.
ومن وجهة نظره فإن “موضوع العرفان لدى الشعب السوري له قيمة كبيرة ومهمة، وبخصوص إطلاق أسماء (شهداء الجيش التركي) على بعض المرافق الخدمية، فإن ذلك يأتي لتكريس هذا المفهوم”.
وردًا على الأسئلة المتعلقة بوجود دور محتمل لتركيا، لفرض طابع ثقافي خاص بها في ريفي حلب الشمالي والشرقي، نفى جمعة وجود أهداف سياسية خلف أسماء المشاريع، مبررًا ذلك بأنّ “الدولة التركية هي الحريصة على وحدة الأرض والشعب السوري، وهي الأكثر حرصًا على وحدة الأراضي السورية وسيادة الشعب السوري، وهي ضد كل أشكال التقسيم وضد الانفصاليين، لأن الكثير من الأمور يتم تحقيقها بإرادة السوريين وصناعة مستقبلهم”.
ويعتبر رئيس المجلس التركماني أن تركيا تعاملت مع السوريين بجميع مكوناتهم بالتساوي، ويكرر مجددًا، “لذلك فإن المسميات شكل من أشكال التعاون والوفاء”.
مرافق.. فصائل.. مدارس
ملامح تركية بارزة
أسمهت تركيا في إقامة بعض المشاريع الخدمية والتعليمية في المنطقة، الامر الذي انعكس بشكل إيجابي على الواقع التعليمي والخدمي والطبي.
إذ تمّ افتتاح فروع لبعض الجامعات التركية الحكومية في ريف حلب، ومن بينها جامعتا حران وغازي عنتاب، اللتان فتحتا أبوابهما أمام الطلاب في العام الدراسي الحالي.
وعلى الصعيد الطبي وسعت الحكومة التركية عن طريق وزارة صحتها بعض المستشفيات في المنطقة ورممت عدة مراكز صحية، فضلًا عن إنشاء أخرى جديدة، وافتتحت مشفى في مدينة الباب، الذي يعتبر الأكبر والأكثر تطورًا في المنطقة، وآخر في مدينة الراعي.
على المستوى الخدمي أقامت تركيا ستة أفرع للبريد الحكومي التركي “PTT” في مدن عفرين وأعزاز ومارع وجرابلس والباب، وبلدة الراعي، وفق مراسل عنب بلدي في ريف حلب الشمالي.
كما افتتحت شركة الاتصالات التركية “تورك تيليكوم” أول مركز خدمات لها في ريف حلب الشمالي، في تموز 2018، بالإضافة إلى تدعيم أبراج الاتصالات الموجودة في مناطق الباب وأعزاز بشبكة الانترنت السريعة “G 4.5”.
المشاريع التركية، إلى جانب مجموعة من المشاريع التي نفذتها المجالس المحلية في المنطقة بدعم تركي، أبرزت الملامح التركية في المنطقة وجعلتها سمة عامة، عبر بعض الأسماء المطلقة عليها.
دوار أردوغان وحديقة الأمة العثمانية
اتخذت بعض الشوارع والساحات الرئيسية بعد سيطرة الفصائل العسكرية، المدعومة تركيًا، أسماء جديدة، ومنها دوار “كاوا الحداد” في مدينة عفرين، والذي أصبح اسمه دوار “غصن الزيتون” (في إشارة إلى العملية العسكرية التركية التي تحمل الاسم ذاته)، ودوار ساحة “مبنى السرايا” وسط المدينة، والذي أصبح اسمه ساحة “رجب طيب أردوغان”.
وفي مدينة أعزاز تم تغيير اسم حديقة “الشهيد عمار الداديخي” بعد ترميمها، في نهاية شهر أيار الماضي، إذ أطلقت ولاية كلّس جنوبي تركيا على الحديقة التي يعود تاريخ تأسيسها إلى عشرينيات القرن الماضي، اسم حديقة “الأمة العثمانية”، بحسب ما ذكره المكتب الإعلامي في أعزاز.
كما أطلق اسم “بولانت آل بيرق” على مدرسة ابتدائية في مدينة الباب، وهو اسم ضابط تركي قتل خلال العمليات العسكرية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في المدينة شرقي حلب.
من هؤلاء الذين استُبدلت أسماؤهم؟
تمثل قصة كاوا الحداد، أسطورة يرويها الأجداد لأطفالهم في حكايات الظلم والنصر والحرية، وتروي قصة ملك ظالم يسمى الضحاك تسبب بلعنة على مملكته، التي لم تعد تشرق الشمس فيها.
كان الملك يقتل طفلين كل يوم من القُرى المحليّة ليقدم دماغيهما إلى ثعبانين ظهرًا على كتفيه. أتى الدور على طفلة الحداد كاوا، الذي رفض التضحية بها، وقدم دماغ خروف للملك.
سمع الناس بخدعة كاوا ففعلوا الأمر نفسه، وأرسلوا أطفالهم إلى الجبال، حيث يعيش كاوا لحمايتهم، وكبر الأطفال في الجبال وصنع كاوا منهم جيشًا لإنهاء عهد الملك الشرير.
عندما وصل الجيش إلى ذروة قوته نزل من الجبال واقتحم قلعة الضحاك. وجّه كاوا ضربة قاتلة إلى الملك فأرداه.
وبنى أنصار كاوا مشعلًا كبيرًا أضاء السماء لإرسال الخبر لبلاد ما بين النهرين، لتعود الشمس بالشروق مرة ثانية في البلاد، وكانت هذه، بحسب ما تعتبره الأسطورة، بداية “يوم جديد” أو “نيروز” أو “نه روز” وهو اليوم الذي يوافق 20 أو 21 من آذار الذي تحتفل فيه الأقلية الكردية بعيد النيروز.
عمار الداديخي لا تعود قصته إلى العصور الغابرة، إذ جرت أحداثها قبل نحو ستة أعوام، حينما أصيب خلال حصار مطار “منغ” العسكري بريف حلب بطلقة نارية أدت إلى مقتله، في كانون الثاني من عام 2013.
لعب عمار الداديخي، المولود عام 1961، الذي كان يقود لواء “عاصفة الشمال” دورًا مهمًا في تحرير عدة ثكنات وحواجز عسكرية في قرى وبلدات ريف حلب، بالإضافة لمشاركته في معركة حصار مطار “منغ” العسكري.
شخصية قائد اللواء العسكري، لم تكن شخصية توافقية، بين الجميع في المنطقة، ولكن على الرغم من ذلك أطلق على مطار “منغ” بعد تحريره، في شهر آب من ذات العام، اسم “مطار الشهيد عمار الداديخي”، كما سميت الحديقة العامة في مدينة أعزاز التي ينحدر منها باسمه.
فصائل سورية بأسماء “عثمانية”
على الصعيد التنظيمي برز “الجيش الوطني” ككتلة عسكرية منظمة في الشمال السوري، أُسست مطلع 2018، وتم تقسيم الجيش بعد الإعلان عنه إلى ثلاثة فيالق (الفيلق الأول، الفيلق الثاني، الفيلق الثالث)، وجردت تلك الفيالق والكتائب المنضوية تحتها من الأسماء التي سميت بها سواء أكانت تركية أم عربية.
بالمقابل، تُطلق بعض الفصائل المنضوية تحت الجيش الوطني على نفسها أسماء ذات دلالات تركية، كما هو الحال بالنسبة لفصيل “سليمان شاه” الذي خرّج قائده مؤخرًا كتيبة تحت مسمى “أشبال أرطغرل”، قبل أن يظهر في صورة أخرى له واضعًا فيها العلم التركي على صدره وعلم الثورة على كتفه الأيمن، في اللباس العسكري الرسمي الخاص به.
إضافة إلى فصائل “السلطان مراد” و”محمد الفاتح” و”لواء سمرقند” وغيرها من المسميات.
علم تركيا على “الجلاءات” المدرسية
طالت التغييرات تحت الظل التركي في المنطقة المناهج الدراسية التي قررتها “الحكومة السورية المؤقتة”، والتي عدلت بعض مضامينها والإشارات السياسية فيها، وخصوصًا في مواد التاريخ والجغرافيا، إذ تم، على سبيل المثال، إزالة أي كلمات تشير إلى “احتلال عثماني” واستبدال “حكم عثماني” بها، وهو ما أكده وزير التربية والتعليم، عماد برق، في لقاء سابق مع عنب بلدي.
في الوقت ذاته تعمل تركيا على تطبيق نظامها التعليمي في هذه المناطق، بالوقت الذي تعمل فيه على إنشاء منظومة تعليمية متكاملة تخدم المنطقة، وتضم هذه المناطق نحو 500 مدرسة، يدرس فيها نحو 150 ألف طالب، وفق تصريحات وزارة التعليم التركية.
وأُدرجت اللغة التركية في المناهج الدراسية ابتداء من المرحلة الابتدائية حتى المرحلة الثانوية، وفق قرار صدر عن المكاتب التعليمية في مجلس محافظة حلب الحرة، عام 2017.
وظهر الطابع التركي جليًا في العملية التعليمية، بعد أن جمعت المكاتب التعليمية في مناطق ريف حلب على أغلفة “الجلاءات” المدرسية علمي الثورة وتركيا.
النفوس والهويات
ترتبط دوائر النفوس في ريف حلب الشمالي، بولايتي هاتاي وكلّس وغازي عنتاب جنوبي تركيا، وتفرض هذه الدوائر على السكان في أغلب مناطق ريف حلب الشمالي استصدار بطاقات تعريفية تدخل بيانات حملتها من السوريين بنظام النفوس التركي.
كما تم ربط “تلويح” السيارات وتقديم شهادات قيادة المركبات، بالنظام التركي العام، والتي بدئ تنظيمها من قبل المجالس المحلية، في آب من عام 2018، ولم تتبلور في شكلها الحالي حتى آذار من العام الحالي.
وأطلق المجلس المحلي في أعزاز، في شهر آذار الماضي، شبكة مركزية مرتبطة بإدارة النفوس في المدينة وبالمؤسسات الخاصة بالنقل في ولاية كلّس، كذلك ترتبط بالولاية مكاتب المواصلات في المجالس المحلية في مدن وبلدات أخترين، وصوران، ومارع، والراعي، بينما ترتبط مدن الباب وبزاعة وقباسين بشبكة مركزية مع ولاية غازي عنتاب.
تحطيم تمثال كاوا الحداد في مدينة عفرين – 2018 (daraj)
وجهة نظر حقوقية..
ما تبعات غلبة الطابع التركي في ريف حلب؟
يخلق الزحف الثقافي التركي في ريف حلب الشمالي بعض المخاوف التي عبّر عنها ناشطون سوريون، والمبنية على تساؤلات حول احتمالية وجود نيّة للتمدد التركي في الشمال السوري.
تلك المخاوف جاءت من متابعي صفحة عنب بلدي على “فيس بوك” ردًا على استطلاع للرأي طرحته الجريدة، وسألت فيه متابعيها: “برأيك.. من المسؤول عن إدخال طابع تركي إلى مناطق بريف حلب تسيطر عليها المعارضة السورية؟”، هل هي سياسة تركية موجهة، أم أنها مبادرات سورية من مسؤولين محليين؟
النسبة الأكبر (55٪) من المشاركين في الاستطلاع، والذين بلغ عددهم أكثر من 2300 يرون أنّ هذا الطابع مدفوع بسياسة تركية موجّهة.
إذ كتب المتابع “قنبر عصمت”، “إنّ الوجود التركي خطر على سوريا والشعب السوري”، كما رأى “أحمد الدليم” أن لتركيا أهدافًا “توسعية لاستعادة الأراضي التي كانت تسيطر عليها الدولة العثمانية سابقًا”.
46٪ من المشاركين في الاستطلاع يعتقدون أن مبادرات المسؤولين المحليين في ريف حلب هي التي أتاحت المجال لظهور الطابع التركي في المنطقة، ومنهم المتابع “أبو الحلبي”، الذي يرى أن هناك من يتملق لتركيا، ويؤيده “محمد عبد” الحميد الذي يعتبر الأمر نتيجة “النفاق”.
“عمر الخطيب” يدعم أيضًا هذا الرأي، مستدلًا على ذلك “بما يفعله السوريون حين زيارة وال أو مسؤول من اهتمام بالشوارع والأرصفة”، ويعتقد “حمزة رنكوسي” أيضًا أن “الحكومة التركية لا تطلب مثل هذه الطلبات”.
وفي ظلّ التباين في آراء السوريين حول سبب بروز الطابع التركي في حلب وآثاره، سعت عنب بلدي إلى مناقشة هذه القضية حقوقيًا، والتقت مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، للوقوف على القضية.
سياسة ناعمة
يرى الأحمد أن التسميات التركية التي أطلقت على الحدائق والمرافق العامة في ريف حلب لا تعتبر أمرًا مفروضًا من قبل تركيا، وهي في نفس الوقت ليست اجتهادًا فرديًا.
ويقول الأحمد، “يبدو أن هناك سياسية ناعمة لتتريك المنطقة، وتتريك المناطق العربية أو التي يشكل العرب الأغلبية منها، مثل الباب وجرابلس وأعزاز، وأيضًا المناطق ذات الغالبية الكردية متل عفرين”.
وبحسب الأحمد فإن سبب إطلاق التسميات هو ارتباط المجموعات العسكرية الموجودة في المنطقة بالحكومة التركية، إذ تحمل عدة مجموعات عسكرية في مسمياتها أسماء سلاطين أتراك، وعلى الجانب الآخر فإن رؤساء المجالس المحلية لا يعرفون الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الأمر.
ومن الواضح أن مناطق ريف حلب تشهد تغييرًا ثقافيًا، وفق الأحمد، معتبرًا، أن تتريك المناطق العربية يتم “بشكل واضح”، بينما يتم العمل على تتريك وتعريب مناطق أخرى كعفرين، “وهذا مؤشر خطير”، بحسب وصفه.
ويقول مدير المنظمة الحقوقية، “نعم لدينا مشكلة مع النظام السوري، لكن الأرض سورية والثقافة سورية وعربية وكردية ونعتز بها، ونحترم الثقافة واللغة التركية، لكن هذا لا يعني تتريك أمور معينة، لأن الموضوع يخلق حساسيات كبيرة جدًا بين العرب والكرد والأتراك والتركمان من جهة أخرى”.
ما الأثر المستقبلي؟
هل يندرج إطلاق المسميات التركية على مرافق ريف حلب ضمن سياسة “تتريك” تعمل عليها تركيا في المنطقة، أم هي عبارة عن إجراء وليد المرحلة لا يمكن أن تكون له أبعاد أخرى؟ وما الأثر المستقبلي لهذه الخطوات، خاصةً أن المنطقة أصبحت تدار عسكريًا ومدنيًا بشكل كامل من الجانب التركي عبر الولايات التركية في كلّس وغازي عنتاب وهاتاي؟
بحسب بسام الأحمد فإن الآثار المستقبلية التي تقف وراء التسميات “خطيرة”، إذ تعتبر عمليات تغيير ديموغرافي لكن بالطريقة الناعمة، بحسب تعبيره.
ويوضح، “في بدايات النزاع السوري كان التغيير الديموغرافي واضحًا، أما في الوقت الحالي بعد الضجة الإعلامية والتوثيقات والحديث الذي يدور في الشارع عن الانتهاكات، فتحول الأمر إلى الصيغة الدبلوماسية بالطريقة الناعمة”.
الطريقة الناعمة للتغيير الديموغرافي تحتاج إلى عمل كبير لإثباتها، بحسب الأحمد، وبخصوص ريف حلب، تشهد المنطقة تعيين أشخاص ولاؤهم تركي، وإلى جانب ذلك ربطت المنطقة إداريًا وعسكريًا وسياسيًا بها.
ويشير إلى أنه “يجب على كل دولة أن تحترم سيادة واستقلالية الدول الثانية، بغض النظر عن الموقف من النظام الحالي لهذه الدولة”.
وفي الإطار السابق يرى الأحمد أن الجهات الإعلامية والمنظمات الحقوقية والسياسية وكثير من المنظمات الدولية لا يوجد لديها أي موقف جدي حول ما يحصل في مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، بمعنى أنها صامتة “لأسباب سياسية أو قلة الحيادية وأسباب أخرى تتعلق بالانحياز”.
وبالمعنى القانوني الحقوقي يضيف الأحمد، “يجب على المنظمات أن تتخذ موقفًا بخصوص الانتهاكات، لأن العمل لا يقتصر على انتهاكات النظام السوري، بل يجب العمل على انتهاكات تركيا والقوات المرتبطة بها وقوات سوريا الديمقراطية، وأي طرف آخر”، مشيرًا إلى أن منطقة ريف حلب تعاني من تقصير كبير في التغطيات من قبل المنظمات الحقوقية، “وهو أمر مؤسف ويضر بمصداقيتها”.
تركيا في حلب.. إيران في دمشق.. روسيا في الساحل
الهوية السورية مهددة
على الرغم مما يحتضنه الشمال السوري، وبالتحديد ريف حلب الشمالي، من مظاهر تشير إلى وجود طابع تركي في المنطقة، لكن المشهد في هذه المنطقة هو جزء من صورة أعمّ تعبّر عن ملامح التدخل الأجنبي في سوريا.
وتبدو تلك المظاهر على نطاق واسع في مناطق سيطرة النظام، حيث يتحرك أفراد الميليشيات العسكرية الإيرانية بحرّية، وينتشر أفراد الشرطة العسكرية الروسية في مدن رئيسية مثل دمشق وحلب وحمص، وتعمد الدولتان إلى تثبيت وجودهما في سوريا بخطوات تستهدف قطاعات اقتصادية وثقافية وتعليمية.
وكانت روسيا، المتحالفة مع النظام عسكريًا وسياسيًا، اتخذت خطوات عدّة في سبيل إطالة فترة بقائها في سوريا، تجلّى أبرزها في الاستثمار بقطاع المواصلات، إذ استأجرت في نيسان الماضي مرفأ طرطوس بعقد لمدة 49 عامًا تُمدد تلقائيًا 25 عامًا، وقعته مع حكومة النظام السوري.
كما يدرس النظام عرضًا روسيًا لإعادة تأهيل مطاري دمشق وحلب، بحسب ما أكدته وزارة النقل في حكومة النظام في أيار الماضي، وسط حديث عن نية روسية استثمار مطار دمشق الدولي.
وتسعى روسيا أيضًا للتحكم بسوق العقارات والقطاع المصرفي في سوريا، في إطار التحضير لمرحلة ما بعد إعاد الإعمار.
وفي ظل الدعم الروسي لنظام الأسد، باتت الروسية لغة اختيارية للطلاب في المدارس منذ عام 2015، ووفق تصريح لرئيس قسم اللغة الروسية بجامعة دمشق، هيثم محمود، فإن 25 ألف طالب يدرسون اللغة الروسية في المدارس السورية.
بالمقابل، تسعى إيران إلى وضع يدها على قطاعات أخرى في سوريا، منها قطاع الفوسفات، وكانت قد قدمت مشاريع لصالح قطاعي المصارف والنقل، كما اتخذت مؤخرًا خطوات عدة لتثبيت وجودها في الحقل الإعلامي السوري.
على المستوى الثقافي، انتشرت في مناطق النظام السوري المظاهر الدينية القادمة من إيران، وتكررت في احتفالات تقام بشكل دوري في الجامع الأموي وسط دمشق، وفي بلدة السيدة زينب في ريف دمشق، ومناطق أخرى، كمدينة داريا ومدينة حلب، ومؤخرًا في مدينة دير الزور، شرقي سوريا.
ويحمل هذا الواقع تهديدًا للهوية السورية، تحت تأثير تعدد الثقافات القسري الذي يفرضه وجود الأقطاب الأجنبية في سوريا، كما يوفّر الانقسام السوري- السوري أرضية خصبة له.