بعد الحرب العالمية الثانية خرجت معظم دول العالم منهكةً اقتصاديًا وسياسيًا ومدمرة عمرانيًا نتيجة الحرب الطاحنة التي جرت على أراضيها في أوربا وأسيا وأجزاء أخرى من العالم. ولربما كانت الولايات المتحدة هي الاستثناء في تلك الحالة، اذ أن موقعها الجغرافي البعيد عن ساحات المعارك جعلها بعيدة –لحدٍ كبير- عن الدمار الذي تخلفه الحروب في البنيان والاقتصاد إلى جانب الخسائر البشرية. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها تم طرح عددٍ من المشاريع لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، وكان من أهم تلك المشاريع «مشروع مارشال» وهو المشروع الأمريكي لإعادة إعمار أوربا.
واليوم وفي ظل الحرب التي يشنها نظام الأسد ضد سوريا وشعبها وتاريخها وأرضها وحضارتها وعمرانها؛ تكاد المقارنة بين الدمار الذي يخلفه نظام الأسد والدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية تكون صحيحة. ولعل مدينتنا -داريا- وما حل بها خيرُ مثالٍ على تلك المقارنة. وهذا الواقع يستدعي ضرورة وضع مشروعٍ وطني لإعادة إعمار سوريا بعد سقوط النظام. إلا أنه وحتى ذلك الوقت فإنه من الضرورة بمكان إطلاق مشاريع محلية على مستوى المدن والقرى والمناطق لإعادة الإعمار وتجاوز آثار الحملات العسكرية أو الهجمات التي يشنها النظام على هذه المناطق والدمار والخراب الذي ينشره فيها.
وداريا التي شهدت قبل أيام حملةً شرسة من قبل قوات النظام أتت على البشر والشجر والحجر، باتت بحاجة ماسة لمشروع عاجل للإنقاذ وتجاوز الأزمة، بما يساعد أبناء المدينة على التخفيف من آثار الحملة. وهذا المشروع يتألف من عدة مكونات يمكن تصنيفها وفق مايلي:
1. إعادة تأهيل البنية التحتية (شبكات الهاتف والماء والكهرباء) والذي يعتمد على قيام مؤسسات الدولة بواجبها في هذا المجال.
2. إعادة إعمار المساكن والمحال التي تضررت بشكل أو بآخر نتيجة القصف والاقتحام الذي تعرضت له المدينة.
3. تنشيط الحركة الاقتصادية في المدينة.
4. كفالة ورعاية أسر ضحايا الحملة الأخيرة والمتضررين منها سواء أسر الشهداء أو المعتقلين والمفقودين أو المصابين…..
إن تصنيف مكونات المشروع بهذا الشكل يستند إلى تكاليف المكونات، إلا أن الاولوية والأهمية يجب أن تُعطى للمكون الرابع وهو كفالة أسر ضحايا ومتضرري الحملة (الأخيرة وما قبلها) كونه يرتبط بحياة اشخاص ووجودهم ومعيشتهم.
فقد أسفرت الحملة الأخيرة عن أكثر من سبعمائة شهيد جُلّهم من الشباب الذين يعيلون عوائلهم، وعملهم هو مصدر الدخل الوحيد أو الأساسي لهذه الأسر، ومع استشهادهم فقدت عوائلهم مصدر دخلها. ويضاف هؤلاء الشهداء إلى مئتي شهيدٍ قضوا قبل ذلك.
وكذلك الحال مع مئات المعتقلين والمفقودين (أكثر من 700 شخص بين معتقل ومفقود) والذين فقدت أسرهم معيليها ومصدر دخلها. ويضاف إليهم هؤلاء الذين تهدمت محالهم -مصدر رزقهم الوحيد- فباتوا لا يملكون مصدرًا للدخل يعيلون به انفسهم وعائلاتهم. كل ذلك عدا عن أصحاب المحال الذين لم يتضرروا مباشرةً نتيجة القصف أو الاقتحام؛ لكن أعمالهم ومصالحهم قد توقفت منذ أشهرٍ فغاب عنهم الدخل نتيجة الوضع العام في المدينة والحصار المفروض عليها –وهؤلاء يشملهم المكون الثاني من المشروع وهو تنشيط الحركة الاقتصادية-.
وبالنتيجة يكون لدينا ما لايقل عن ألف وخمسمائة أسرة فقدت معيليها، وأكثر من ثلاثمائة طفل فقدوا أباءهم نتيجة استشهادهم، وأكثر من أربعمائة طفل فقدوا أباءهم نتيجة اعتقالهم. فما الذي يمكن القيام به -وهو واجب أبناء المدينة تجاه أخوتهم وجيرانهم وأبناء بلدتهم- لتعويض هذه الأسر عن فقدان معيليها وللحيلولة بينها وبين الحاجة أو الجوع؟؟ لاسيما في ظل الوضع الاقتصادي والمعاشي الصعب الذي يعيشه جميع أبناء المدينة وفعالياتها الاقتصادية.
إذا ما قدرنا احتياجات الأسرة المتوسطة الأفراد لتلبية متطلباتها الأساسية من غذاء ودواء وكساء -الأساسيات فقط وليس الكماليات- بمبلغ 6500 شهريًا (وهو أقل تقدير لتكاليف المعيشة في ظل الظروف ومستويات الأسعار الحالية) فإن تلبية الحاجات الأساسية لهذه العائلات يتطلب مبلغًا يتجاوز الـ «عشرة ملايين ليرة شهريًا».
وبما أنه يصعب على الكثيرين -لاسيما في ظل الظروف الحالية- تأمين مبلغ كفالة الأسرة الواحدة (6500 ليرة) بشكلٍ شهري وباستمرار، فإن ذلك يقتضي تضافر جهود أبناء المدينة لكفالة أسر أبنائهم وإخوانهم وجيرانهم وتعاونهم في سبيل ذلك. كما يبرز هنا الدور الهام للمغتربين من أبناء المدينة في الدول الأخرى وضرورة قيامهم بواجبهم تجاه مدينتهم وأهلها من خلال إرسال مبالغ مالية تخصص لكفالة الأسر المتضررة ومساعدتها سواء من رواتبهم أو من خلال ما يستطيعون جمعه عبر علاقاتهم ومعارفهم في بلدان المغترب لصالح هذه الأسر.
ومن الممكن في سبيل كفالة الأسر وعدم تحميل شخص واحد تكاليف كفالة الأسرة كاملة إحداث «صناديق عائلية» بحيث يسهم كل فردٍ عامل من أبناء العائلة الكبيرة بمبلغ مالي معين -مبلغ محدد أو حسب القدرة- كل شهر، ويتم استخدام أموال هذا الصندوق للانفاق على الأسر التي فقدت معيليها من العائلة ذاتها، بحيث يتم كفالة أسرة الشهيد أو المعتقل من قبل إخوته وأبناء عمه وأقاربه. كما يمكن إحداث صناديق مماثلة على مستوى الحي يسهم فيه أبناء الحي جميعًا للإنفاق على الأسر المتضررة القاطنة في الحي نفسه.
كما أن الاعتماد على المؤسسات الخيرية في المدينة خيار آخر وقد يكون هو الحل الأنجح والأفضل للتعامل مع هذه الحالة. حيث تقوم هذه المؤسسات والجمعيات بتقديم خدماتها من مساعدات مالية وعينية ومواد غذائية وسواها من الخدمات لهذه الأسر.
وتقوم كذلك بكفالة الأيتام ومتابعتهم اجتماعيًا ونفسيًا ودراسيًا، ومعالجة المرضى والمصابين وتقديم العلاج لهم. إلا أن ذلك تطلب حصول هذه المؤسسات الخيرية على مبالغ مالية كبيرة وبشكل دوري مما يقتضي أن يوجه جميع أبناء المدينة -بما فيهم المغتربين- دعمهم ومساعداتهم لهذه المؤسسات وتقديم التبرعات إليها بحيث تستطيع مساعدة العائلات المتضررة وتقديم خدماتها لهم بأفضل ما يمكن.