الشيوعيون السوريون.. محطات عكّرها الانقسام
عنب بلدي – يامن مغربي
لا يعد الحديث عن الشيوعيين السوريين أمرًا سهلًا، في خضم الأزمات التي تعيشها سوريا في الوقت الحالي، وتعقيد مسألة الشيوعيين السوريين ومواقفهم تجاه حافظ الأسد منذ انقلاب 1970، أو ما عرف بالحركة التصحيحية، وانشقاقات الحزب الذي تحول من حزب واحد تحت قيادة خالد بكداش، إلى أربعة أحزاب.
لا يمكن الحديث عن الشيوعيين السوريين، دون المرور على الاتهام الأول الذي يلاحقهم، سواءً من معارضيهم السياسيين، أو من المجتمع غير المسيس، ألا وهو اتهامهم بالإلحاد، ولم يكن هذا الاتهام صادرًا من جهات دينية معروفة فقط، ولم تكن دور الإفتاء في البلاد العربية وحدها هي المسؤولة أو المحرضة عليه، فهناك ربط دائم بين الشيوعية والظروف السياسية أيضًا، خاصةً فيما يتعلق بحرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.
تعود الأفكار الشيوعية إلى المؤمنين بمذهب الفيلسوف والاقتصادي الألماني كارل ماركس، وتدعو إلى نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي يعتمد الإنتاج الجماعي ويشيع الملكية ويزيل الطبقات الاجتماعية، وأن يعمل الفرد على قدر طاقته ويأخذ على قدر حاجته، بما يحقق المساواة الاقتصادية والمعيشية. |
هل الشيوعيون ملحدون فعلًا؟
يعود اتهام الشيوعية بالإلحاد إلى الكنيسة في أوروبا، منذ صدور “البيان الشيوعي” في عام 1847.
ويقول محمد رمزي سالم، وهو أحد أعضاء الحزب الشيوعي السوري، في حديث إلى عنب بلدي، إن اتهام الشيوعيين أو الحزب الشيوعي بمعاداة الأديان والإلحاد عائد للتفسير الخاطئ لفقرات جاءت في البيان الشيوعي.
وصدر هذا البيان لشرح ونشر الأفكار والمبادئ الشيوعية بشكل مكثف، لتتعرف إليها الشعوب الأوروبية، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من الملكية الخاصة والموقف من الدين والكنيسة والمرأة والاستعمار الأوروبي لدول العالم، لذا حاولت الكنيسة عبر استغلال الجهل والأمية المنتشرة في أوروبا في تلك الفترة، اتهام البيان بالإلحاد، باقتطاع فقرة من سياقها والتمسك بها، وهي “الدين أفيون الشعب”.
ويشرح محمد رمزي سالم الفقرة المقصودة بقوله إن “هذه الفقرة اقتطعت من سياق ما قبلها والذي يوضح أنه وفي ظل الظلم والاستغلال والانقسام الطبقي، وتحالف الكنيسة ورجال الدين الذين يشكلون الملاذ الأخير للتخلص من كل الظلم السائد بالنسبة للمستغلين، وانسداد الأفق أمام الطبقة العاملة، يصبح الدين في ظل كل ما ذكر صرخة الإنسان المقهور وقلب عالم لا قلب له إنه أفيون الشعب”، ويضيف، “يعني ذلك ظروفًا محددة وشعبًا محددًا في مجتمع محدد كذلك، والتعميم هنا مقصود من قبل الطبقة الرأسمالية وبنيانها الفوقي والطبقة البرجوازية”.
الاتهامات الموجهة من قبل رجال الدين في سوريا والدول العربية، ومن بعض المجتمعات العربية لم تأتِ فقط بسبب موقف الكنيسة الذي اقتبسه الآخرون لاحقًا، بل تأتي أيضًا من قبل الشيوعيين أنفسهم، لعدم قدرتهم على حماية خاصرتهم الضعيفة، وهي الموقف من الدين.
ويقول الطبيب الذي ينتمي إلى التيار الشيوعي عمار ميرخان، لعنب بلدي، إن الحزب الشيوعي كان مليئًا بالمتدينين، وبغيرهم أيضًا، رغم أن الحزب بأساسه لا يعتمد على أي مرجع ديني ولا يستند بأفكاره العقائدية على الدين.
كان يجب على الماركسية أن تطور من أدواتها، بحسب ميرخان، فيما يخص دور الذات البشرية وكيفية تشكل وعي البشر وكيف من الممكن أن يتغير هذا الوعي لاحقًا، فهذه النقطة تحديدًا منعت الماركسية من أن تكون دعوة للتغيير.
خالد بكداش والانقسامات
أُسس الحزب الشيوعي السوري عام 1924، وعانى عبر تاريخه من عدة أخطار، فحُل الحزب إبان الوحدة السورية المصرية في عام 1958، واغتيال فرج الله الحلو، أحد أهم قياديي الحزب، والذي قتل تحت التعذيب قبل أن يتم تذويب جسده بالأسيد، على يد المكتب الثاني بقيادة عبد الحميد السراج.
تحدث بعض المؤرخين عن دور لخالد بكداش، أبرز قياديي الحزب الشيوعي، في عملية الاغتيال، بإرسال الحلو إلى سوريا رغم علمه بأن اسمه على قوائم المطلوبين وكانت قيادات الحزب غادرت البلاد.
وهو اتهام لم تثبت صحته، كما نفته أرملة خالد بكداش، وصال فرحة، في لقاء مع جريدة الحياة في 5 من آب من عام 2002، التي قالت إن الحلو هو من أصر بنفسه على التوجه إلى دمشق.
وتوالت بعد ذلك الانقسامات الداخلية التي أدت إلى إنشاء أحزاب أخرى حملت تسميات مختلفة (رابطة العمل الشيوعي، منطقية دمشق، الحزب الشيوعي السوري الموحد)، هذه الانقسامات والانشقاقات لم تكن فقط وليدة الأوضاع السياسية التي تعيشها سوريا منذ عام 1970، ولو أنها مرتبطة بها بشكل أو بآخر، إلا أن أوضاع الحزب الداخلية كان لها بالغ الأثر أيضًا.
قاد خالد بكداش الحزب الشيوعي السوري منذ عام 1933، بعد ثلاث سنوات من الانضمام إليه، وحتى وفاته في عام 1995، عن عمر ناهز 85 عامًا.
ويتحدث معاصرون لحقبة خالد بكداش، عن تسلطه وتحكمه بكل شيء، وعن نهجه الديكتاتوري في قيادة واحد من أقدم الأحزاب في المنطقة العربية، ويروي الكاتب مصطفى دروبي في مقال له في صحيفة العربي الجديد، في 23 من كانون الثاني 2019، عن الاحتفالات بعيد مولد القائد، والوفود التي تأتي لتهنئته بعيده.
ويصف الطبيب عمار ميرخان، في حديثه إلى عنب بلدي، خالد بكداش بالديكتاتور، مبينًا أنه لا يجد توصيفًا أفضل لوصف الراحل بكداش، مشبهًا إياه بأي ديكتاتور آخر، كرس عبادة الفرد، وبحث دائمًا عن أعداء له.
ويختلف محمد رمزي سالم مع ميرخان، إذ يرى أن “الرفيق” خالد بكداش كان مناضلًا وطنيًا قاد الحزب في ظروف صعبة للغاية، خاصة في فترة الوحدة السورية المصرية، وقدم بكل شجاعة وثيقة الـ 13 مقترحًا للحفاظ على دولة الوحدة، على حد تعبيره.
ورفض خالد بكداش الوحدة مع مصر، وتغيّب عن جلسة البرلمان الخاصة بالتوقيع على المعاهدة.
ورغم اختلاف وجهات النظر فيما يخص خالد بكداش، كانت أسباب الانشقاقات واحدة مع الاتفاق عليها من قبل عشرات الشيوعيين السابقين منهم والحاليين، فكل من ميرخان وسالم اتفقا على أن إرساء أسلوب عبادة الفرد داخل الحزب كان من الأسباب التي أدت إلى انقسامه لاحقًا.
ويُرجع سالم الانشقاقات إلى عوامل سياسية داخلية، فانشقاق رياض الترك على سبيل المثال كان بسبب الموقف من النظام السوري والجبهة الوطنية التقدمية، وتطور هذا الانشقاق لاحقًا إلى خلاف سياسي- فكري، ومن ضمنه الموقف من جماعة الإخوان المسلمين، ومن جهة أخرى يُعزى الانقسام إلى أسباب تنظيمية تتعلق بقيادة الحزب وانتقال القيادة بعد رحيل خالد بكداش إلى زوجته وصال فرحة، ما أدى إلى الخروج عن الأطر التنظيمية، بحسب سالم.
ولا تنفصل الأسباب الداخلية بطبيعة الحال عن الأسباب السياسية الخارجية، في ظل غياب الحياة الحزبية تحت أنظمة القمع وغياب الحريات السياسية.
تبعية للاتحاد السوفييتي؟
أحد أهم الاتهامات الموجهة لخالد بكداش، والحزب الشيوعي السوري هي الارتباط الدائم بالاتحاد السوفييتي، وعدم أخذ الظروف السياسية في البلاد بعين الاعتبار، وهو ما كان من شأنه لو حصل أن يغير الكثير من سياسة الحزب ووضعه السياسي، خاصةً أن بكداش كان يتمتع بصلات وصداقات دولية كثيرة، وهو أحد الناجين من المذبحة السياسية التي لحقت بالطبقة السياسية السورية، وأحد السياسيين القلائل الذي استطاعوا ممارسة العمل السياسي بحدوده الدنيا في سوريا بعد انقلاب حافظ الأسد في عام 1970، وسيطرته على مقاليد الحكم في سوريا.
ومنذ الوحدة مع مصر، التي قادها جمال عبد الناصر ولاحق الشيوعيين كما الأحزاب السياسية الأخرى في سوريا، أصبح واضحًا أن الحزب الشيوعي السوري بقيادة بكداش تابع تمامًا للدولة السّوفييتية في تقرير سياساته الداخلية والخارجية، التي يمليها عليه “الرفاق الكبار” كما كان بكداش يصف المسؤولين السوفييت، بحسب موقع “الاشتراكي الثوري“.
في حين يرى بعض الشيوعيين أن هذه التبعية أو العلاقة الممتدة مع السوفييت هي ما أنقذت بكداش من المذبحة السياسية، وجعلت له بشكل أو بآخر، ظروفًا مختلفة عن الباقين.
هذه التبعية يصفها عمار ميرخان بقوله “المضحك أنه وحتى اليوم، يعتبر البعض ممن يصفون أنفسهم بالشيوعيين، روسيا بوتين دولة اشتراكية مناهضة للإمبريالية العالمية، وهو أمر مؤسف للغاية”.
ويضيف ميرخان، “كنا دائمًا في حالة اندماج وكنا جزءًا من منظومة الاتحاد السوفييتي، وحتى في الخلاف بين بكداش والترك حول النظام الداخلي ودستور الحزب، كان السلاح الرئيسي الذي رفعه بكداش في وجه الترك هي ملاحظات الرفاق السوفييت”.
في حين يختلف رمزي ثانيةً مع ميرخان، ويرى بأن هذه العلاقة كانت مهمة في زمن الحرب الباردة، والقضية الفلسطينية، ووجود إسرائيل لحماية المصالح الحيوية المتمثلة بالنفط والغاز.
الشيوعيون والإخوان.. علاقة ندية مدمرة
يعد التحالف غير المباشر بين الإخوان المسلمين والشيوعيين في نهاية سبعينيات القرن الماضي، والحرب التي شنها الأسد على الجماعة، إحدى النقاط الجدلية التي تثار كل فترة، فوضع بعض الشيوعيين يدهم بيد الإخوان لإنهاء حكم الأسد، وهذا الأمر الذي استغله الأخير لإنهاء الحياة السياسية في سوريا بشكل كامل، والقضاء على أي معارضة، وإصدار القانون 49 في العام 1980، والذي يحكم بالإعدام على أي منتمٍ لجماعة الإخوان المسلمين، واللافت أن العديد من الشيوعيين أو المنضمين لأحزاب يسارية أخرى تمت تصفيتهم ضمن هذا القانون، ودفع العشرات من الشيوعيين الثمن بالاعتقال والنفي والاغتيال.
طال التضييق الحزب الشيوعي، كما طال كل السياسيين السوريين، ويرى عمار ميرخان أن الأذى هنا لم يطل الشيوعيين من نظام الأسد فقط، بل من بعض الشيوعيين أنفسهم ممن بقوا في ظل النظام.
بينما يصف سالم تلك الفترة بقوله، “تم التضييق على جميع الأحزاب دون استثناء، وكذلك على الصحف والمنشورات حتى تلك التي كانت توزع بشكل سري كمناشير الحزب”.
ورغم الانقسامات التي طالت الحزب والتضييق على الأحزاب السياسية في البلاد، بقي الحزب الشيوعي يمارس عمله السياسي ضمن الحدود الدنيا، خاصةً وأنه أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي شكلها حافظ الأسد في عام 1972، وضمت حزب البعث والحزب الشيوعي وعدة أحزاب وحركات سياسية أخرى.
ويرى سالم أن وصول الأسد إلى السلطة في عام 1963، أنهى الحياة السياسية في سوريا، ولاحقًا من خلال انقلاب عام 1970 وميثاق الجبهة الوطنية التقدمية في عام 1972، الذي حظر العمل السياسي الحزبي في أوساط العسكريين والطلبة ووصولًا إلى استغلاله الحرب مع الإخوان المسلمين لإنهاء الحياة السياسية في البلاد بشكل كامل، وهذا ما يتفق معه عمار ميرخان.
الشيوعيون والثورة السورية
لم يختلف الحال بعد الثورة السورية في عام 2011، فانضم عشرات الشباب بعيدًا عن التنظيمات الحزبية إلى المظاهرات، وآخرون انضموا إلى العمل المسلح.
وعلى صعيد الأحزاب، بقي الحال على ما هو عليه، من كان يعارض النظام ازداد معارضةً ومن كان ضمن صفوفه استمر على دربه.
وينفي الدكتور عمار ميرخان غياب الشيوعيين عن الثورة السورية، ويؤكد أنهم كانوا جزءًا منها وسقط منهم عشرات الشهداء في المظاهرات، عدا عن المعتقلين كالدكتور عبد العزيز الخير، والراحل سلامة كيلة، معتبرًا أن “الأهم هو الثورة ومصيرها، والمشاركة في الثورة ليست دعاية”.
بينما يرى محمد رمزي سالم أن استمرار الانقسام في صفوف الشيوعيين وفي الأحزاب الأخرى يصب في مصلحة النظام القائم، لأن من مصلحة أي نظام أن يعمل على تفتيت القوى الوطنية والتقدمية في مواجهته، معتبرًا أن “تحول الحراك السلمي ودفعه للعنف تم بضغط قوى إقليمية ودولية، التي من مصلحتها عدم بقاء سلمية هذا الحراك”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :