في تأبين الجنة

  • 2019/06/16
  • 9:54 ص

نبيل محمد

يشبه سيرته تمامًا، سيرة غير منظمة بسياق مسبق، غير مخطط لها أن تكون كما كانت عليه، لم ينتقِ موقع سقوط القذيفة في طريقه خارجًا من حمص أو داخلًا إليها، أو سمت هدف القناص حين يستهدف نوافذ بيته، لن ترسم كل أنواع الأسلحة التي استهدفته سوى الحفر حينما تخطئ هدفها في صدره، قبل أن تصيب في المرة الأخيرة، سينزل حتمًا في تلك الحفر، وسيحمل في قعرها من يرمي له السلاح فيها، حتى قبل أن يرى لواء واهب السلاح ذاك، سيتركه بمجرد الخروج من تلك الحفرة، ثم يقع في حفرة صنعتها قذيفة لاحقة، فيحمل سلاحًا جديدًا من واهب آخر.

لم يكن من المتوقع لمن حوصر بكل هذه الحفر، أن يرتقي قمةً توفر له الرؤية من الأعلى، وتحليل مفاصل الصراع وحيثياته. جمهوره معه في الحفرة أيضًا محاصر بما لا يترك مجالًا للحفاظ على أدوات نظيفة في يده، لقد كسرت تلك الأدوات بالطبع، وجعلته رهينة خيارات ضيقة، محاطة بمهمة دفن إخوته واحدًا تلو الآخر، تأخذ بحة الصوت التي كانت ميزته الأولى إلى مستوى أكثر حدة في النطق وانتقاء الكلمات، سيأخذ الشهيد بمفهومه الثوري الإسلامي البسيط مكانًا أكثر حضورًا فيما ينتقي من كلمات، كلمات تم ترتيبها كيفما تيسّر، في محيط لم يكن يطلب سوى استمرار هذا الصوت، جامعًا الآلاف حوله، آلاف تقفز بحركات حارس مرمى تتقاذفه كرات نار. في حمص كانت الجموع تقفز كحارس مرمى يمنع ضربات الجزاء المتتالية التي تستهدف أعلى نقطة من المرمى. حراس مرمى يقفزون معًا بعد نداء حارس مرمى يحمل ميكروفونًا، ويستبدله بسلاح، ليت الحريق لم يصهر الجثث حوله، ويجبره على رد الموت بالموت، ليت جموع الحراس لم تخرج من ستادات شوارع حمص بمشيئة الطائرات الحربية.
صوت الضواحي الشرقية للمدن، التي تحرم أبناءها من استكمال تعليمهم، فيعملون في ورشات بناء المدن ذاتها، ويركلون كرة القدم في أوقات غياب مهندس الإنشاء. ثم يصنعون مساءً أغنية تتبع ميلودي تراثي، لكنها تنتقي كلمات خطها أكثرهم حساسية للشمس الحارقة، ثم للفقر، فالحصار، فالموت اليومي. هكذا ومن دون سبق إصرار وترصد، كان لدى الساروت ورفاقه مبادرة شعبية بدفع من الشوارع التي تنظم نفسها بنفسها، بتأليف أغنية سيكون لها صداها في الحاضر الثوري، والنوستالجيا اللاحقة لما انتهى. أغنية لا بد أنها الأكثر حقيقة وصدقًا وتعبيرًا وحداثة، بمكونها القديم، وأسلوبيتها. جوقتها آلاف يصدحون ويقفزون، تسجلها فيما بعد استديوهات غير ذات تجربة احترافية. الحصار والنار عادة لا يتيحان احترافًا في أي منتج فني كان أو غير فني، يتيحان فقط احترافًا بتلقائية التعاطي معهما، وبصناعة كل شيء بشكل جمعي في الشارع. الشارع الذي يشذّب ألحان الأغاني وكلماتها، ويهذّب صوت المغني، وينتقي الحرية كثيمة حياتية فنية ترددها الجموع فلا تخلو منها أي أغنية، كما كلمة الشهيد التي تواكب آثار المعركة فتصبح ثيمة الفن فيما يلحق الحصار من مآسٍ، وفيما بعد استراحة الطائرات في مدرجاتها والمدفعية خلف مرابضها.

هوية ما كانت لابن البياضة، بسيطة في تفاصيلها، معقدة في فهمها واستخلاص ثيمتها العامة، خلافية في الحكم عليها، وتشبيهها بشخصيات من قاموس الثورات العالمية، أو حتى من قواميس السياسة والفلسفة، واليمين واليسار، والقواعد اللغوية لتتويج الأيقونات. قواميس يبدو الأسلم في حالة الساروت احترام الخصوصية فيها، خصوصية حارس المرمى الذي يصد أهدافًا بحركات خرافية، وتدخل في مرماه أهداف تجعل الجمهور يطلب باستبداله بالحارس البديل. يقفز بين الجبال والحفر، يرفع راية هذا ويدوس على راية ذاك، ثم يفعل العكس في الصباح التالي، حسب اتجاه القذيفة التي إن لم تقتله فسيضيع في أسلوبية الرد عليها، وفي الجهة التي يجب أن يقف فيها ليرى هدفه. في صياغه هدفه ذاته. لا شيء يبقى واضحًا أمام عين الضحية سوى كلمة الحرية، وصوته. صوته الجميل، الجميل جدًا.

مقالات متعلقة

  1. التهيب أم الحفرة ؟
  2. آبار عشوائية تهدد إدلب بالجفاف
  3. قوات الأسد تخوض “حرب أنفاق” في داريا والجيش الحر يحبط محاولات التسلل عبرها
  4. مليار ليرة لحفر بئر مياه الشرب في بصرى الشام.. الأهالي يدفعون

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي