عنب بلدي – مراد عبد الجليل
اتسعت رقعة الحرائق في عدة مناطق في سوريا، ملتهمة آلاف الهكتارات المزروعة بالقمح والشعير، خلال الأسابيع الماضية، حتى لا يكاد يمر يوم دون وقوع حريق، ما يضيف معاناة جديدة للمواطن السوري إلى جانب ويلات الحرب طيلة السنوات الماضية.
الحرائق شملت مناطق النفوذ الثلاث (المعارضة والنظام والإدارة الذاتية) لكن أسباب اندلاعها مختلفة، إذ نشبت حرائق في المحاصيل الزراعية في ريف حماة الشمالي والغربي ومناطق في ريف إدلب الشمالي التابعة للمعارضة، نتيجة القصف المدفعي الصاروخي من قبل قوات الأسد التي تعمدت حرق المحاصيل.
كما اندلعت حرائق في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، في السويداء ودرعا، لكن أكبرها كان في المناطق الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” في الشمال الشرقي لسوريا، والتي تعتبر الخزان الاقتصادي لسوريا لأن الإنتاج فيها يؤمّن 64% من حاجة سوريا من القمح المروي، و38% من القمح البعلي، و63% من القطن، و29% من العدس، بحسب منظمة الأغذية والزراعة العالمية (فاو).
وبحسب ما أوضح مسؤول هيئة الاقتصاد والزراعة، في المجلس التنفيذي التابع للإدارة، سلمان بارودو، لعنب بلدي، فإن الحرائق التهمت أكثر من 382 ألف دونم في شمال شرق سوريا، بقيمة خسارة تقدر بنحو 17 مليار ليرة سورية.
اتهامات متبادلة
وفي ظل استمرار اندلاع الحرائق في الشمال الشرقي لسوريا وعدم وجود آلية واضحة للحد منها، ما زال الفاعل والجهة المتسببة مجهولة، وعلى الرغم من وجود أسباب منطقية للحرائق مثل ارتفاع درجات الحرارة وشرارات الكهرباء، إلا أن اندلاعها بطريقة ممنهجة وبهذه المساحات تشير إلى وجود أياد خفية تقف وراءها.
وتبادلت الأطراف الاتهامات، إذ اتهمت “الإدارة الذاتية” تركيا بقصف الحقول، كما اتهمت النظام السوري كونه منافسًا لها في استلام مردود القمح، خاصة بعد إعلانها شراء كل المحصول من الفلاحين وتخصيصها لذلك 200 مليون دولار.
في حين قالت وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، الأحد 9 من حزيران، إن الأهالي في المنطقة يتهمون عناصر من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بافتعال الحرائق “ضمن سياسة التضييق التي تتبعها هذه الميليشيات على الأهالي لدفعهم إلى العمل والتعامل معها ومنعهم من تسليم محصولهم للمراكز الحكومية”.
ولم يغب تنظيم “الدولة الإسلامية” عن دائرة الاتهام، خاصة بعد تبنيه إحراق مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في سوريا والعراق، مبررًا ذلك بأنها تتبع لمن يصفهم بـ “المرتدين”، إذ نشرت صحيفة “النبأ” التابعة للتنظيم في عددها “183”، الجمعة 24 من أيار، تقريرًا رصدته عنب بلدي تحدثت فيه عن إحراق مقاتلي تنظيم “الدولة” لمساحات واسعة من محاصيل القمح والشعير في العراق وعدة مناطق شرقي سوريا في الرقة والحسكة وريف حلب.
وحمل تقرير التنظيم عنوان “شمروا عن سواعدكم وابدؤوا الحصار، بارك الله بحصادكم”، متوعدًا بحرق المزيد من الأراضي ومطالبًا عناصره بحرق آلاف الدونمات والأراضي المزروعة.
ورغم تبني التنظيم، بحسب بارودو، هناك أياد خفية وجهات دولية وإقليمية لها مصلحة لحرق المحاصيل الزراعية من أجل ضغط سياسي على “الإدارة الذاتية”.
وفي ظل هذه الاتهامات يطرح تساؤل من المستفيد الأكبر من عدم جني محصول القمح الموسم الحالي، والذي كان سيسهم في تقليل نسبة الاستيراد.
سوريا من الاكتفاء الذاتي إلى الاستيراد
كانت سوريا من الدول المكتفية ذاتيًا بمادة القمح الاستراتيجية منذ أواخر القرن الماضي وحتى السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، ووفق التقديرات الرسمية بلغ متوسط إنتاج القمح قبل عام 2008 أربعة ملايين طن، تكفي لحاجة الإنتاج المحلي ويصدّر الفائض إلى الدول العربية.
وقال مدير المؤسسة السورية للحبوب في حكومة النظام السوري، يوسف قاسم، خلال مقابلة مع إذاعة “المدينة إف إم” المحلية، في 10 من حزيران الحالي، إن سوريا من عام 1994 وحتى 2008، كانت تصدّر القمح إلى دول الجوار، وكانت تؤمّن حاجة الأردن من المادة بشكل كامل، في حين كانت تؤمّن جزءًا من حاجة مصر وتونس، إضافة إلى تصدير القمح إلى أوروبا وخاصة إيطاليا من أجل إنتاج المعكرونة بسبب نوعية القمح السوري الجيدة، أما في العامين 2009 و2010 فتراجع الإنتاج واكتفت ذاتيًا دون تصدير بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد.
ومع بداية الثورة السورية وتصعيد النظام السوري قصفه لمناطق مختلفة، وخروج مساحات زراعية واسعة عن سيطرته، انخفض محصول القمح بشكل كبير، وتفاوتت كميات الإنتاج خلال سنوات الحرب الماضية، لتبلغ العام الماضي 1.2 ميلون طن فقط، ليكون أدنى إنتاج منذ 29 عامًا، بحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو).
تراجع الإنتاج دفع حكومة النظام للبحث عن بدائل من أجل توفير القمح، فتعاقدت مع روسيا، التي تتصدر قائمة مصدّري القمح العالميين، لشراء آلاف الأطنان، وأعلنت خلال العامين الماضيين عن عدة صفقات، كان آخرها في أيار الماضي، عندما أعلنت المؤسسة العامة للحبوب إبرام ثلاثة عقود مع ثلاث شركات روسية لاستيراد 600 ألف من القمح.
وكان وزير التجارة الداخلية السابق، عبد الله الغربي، قال في مقابلة مع وكالة “سبوتنيك” الروسية في آذار 2017، إن “سوريا كان لديها احتياطي من القمح يكفي لخمس سنوات، لكن الآن نستورد القمح من روسيا. حاجة سوريا السنوية حوالي مليوني طن قمح، نستوردها من روسيا وندفع ثمنها كاملًا ونقديًا”، في حين أوضح لـ “رويترز” في 25 من حزيران العام الماضي، أن سوريا تخطط لاستيراد 1.5 مليون طن، معظمها من القمح الروسي.
أعين روسيا على القمح السوري
الاستيراد من روسيا دفع موسكو إلى توجيه اهتمامها نحو الاستحواذ والسيطرة على القطاع الاقتصادي الاستراتيجي، إذ أعلنت شركة “سوفوكريم” الروسية في أيلول 2014، عن استعدادها لإصلاح المطاحن المتضررة كافة والصوامع بأسعار رمزية، بحسب صحيفة “الوطن”، التي نقلت عن الوكيل العام للشركة الروسية، نضال محمد أحمد، بأن “ذلك يعتبر بادرة حسن نية من هذه الشركة إلى الدولة السورية”.
كما أعلنت الشركة نفسها، في شباط 2017، عن بنائها أربع مطاحن للحبوب في محافظة حمص السورية، بكلفة 70 مليون يورو، وأن عملية الإنشاء ستكون بالتعاون بين المهندسين الروس والسوريين، وستغطي الحكومة السورية تكاليف البناء، إلى جانب تصدير آلاف الأطنان من القمح إلى سوريا، في محاولة منها للسيطرة على لقمة عيش السوريين وإخضاعهم.
في حين تحدث وزير النقل في حكومة النظام، علي حمود، عن مقترح تم تقديمه لإنشاء مركز توزيع للقمح الروسي في سوريا، اعتمادًا على مخزون القمح الكبير لروسيا المعد للتصدير، وقال، بحسب صحيفة “الوطن” المحلية، في آذار العام الماضي، إن روسيا في ظل احتياطيات القمح الكبيرة تحتاج إلى سوق تصريف، لذلك تم اقتراح أن تكون سوريا مركزًا لتوزيع القمح الروسي في منطقة الشرق الأوسط.
وأولت روسيا اهتمامًا كبيرًا بتصدير القمح الذي لا يقل أهمية عن تصدير السلاح والمعدات العسكرية، بحسب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في آذار 2018، الذي اعتبر أن الصادرات الزراعية أكثر ربحية للبلاد مقارنة بصادرات الأسلحة والمعدات العسكرية، مشيرًا إلى أنه في عام 2016 تصدرت روسيا قائمة الدول المصدرة للقمح في العالم، بزيادة حصة البلاد من سوق القمح العالمي أربعة أضعاف، من 4% إلى 16%.
جني المحصول في سوريا سيخفّض، في حال حصاده كاملًا، نسبة استيراد القمح من 75% إلى 40% بحسب مدير المؤسسة السورية للحبوب، يوسف قاسم، الذي أكد أنه تم استيراد العام الماضي 75% من حاجة الإنتاج وتمت تغطية 25% من الإنتاج المحلي، أما الموسم الحالي (وبسبب وفرة الإمطار وتوقع وصول كمية الإنتاج إلى 2.5 مليون طن) فمن المتوقع أن يلبي الإنتاج المحلي نحو 60% من الكمية المطلوبة.
أما مسؤول هيئة الاقتصاد والزراعة في الإدارة الذاتية، سلمان بارودو، فأكد أن مخطط الإدارة كان شراء 900 ألف طن من القمح من الفلاحين لتأمين مادة الطحين للمنطقة، لكن بسبب الحرائق والأمراض التي أصابت بعض الأماكن، توقع أن ينخفض الإنتاج إلى 700 ألف طن.
وأوضح بارودو أن الكمية لا تكفي البذار والطحين للعام المقبل، ما سيضطر الإدارة للاستيراد وشراء القمح من بعض الدول مثل روسيا وأوكرانيا ورومانيا.
وفي ظل غياب التحقيقات حول أسباب الحرائق وتحديد الجهة المسؤولة عنها، يدفع الفلاح السوري، الذي ينتظر حصاد الموسم لتأمين قوت عيشه، ثمن مطامع وخطط تجار وسياسيين، لتحصد النيران محصوله وتبقي له الرماد.