نبيل محمد
إيقاعات خطية جديدة يعود بها منير الشعراني في معرض جديد في لندن بعد أن جابت تلك الإيقاعات عدة مدن أوروبية خلال العام الماضي، بسلسلة بناءات جماليّة جديدة بالخط العربي، تحمل مضامين الشعراني الفنية التي يعتمدها في التعامل مع الخط، خارج “القدسية”، وبشكل مغاير للتراث والموروث الديني في الخط.
من الجيد بمكان أن الشعراني يتيح عبر صفحته على فيس بوك لوحاته ضمن مشروعه “إيقاعات خطية”، والذي يبدو أنه خلاصة فهم الشعراني للخط، وأسلوبيته في تطويعه وتحميله معاني الجمل غير النمطية (ضمن مفهوم الجمل المعتادة للاستخدام في عرض الخطوط العربية على الأقل)، فتتبع الخطوط المعاني التي لا يقل إسهامها في انتشار منجزه ونجاح ما اشتغله، عن إسهام شكل الخط وجماليته التي يبرع بها الخطاط الفنان.
“كل فن لا يفيد علمًا لا يعوّل عليه”، مقولة محيي الدين بن عربي التي يحملها الشعراني كشعار ومبدأ يحيط كل جوّه الفني، ويلزم به لوحاته، ولعل كل الجمل التي ينتقيها أو على الأقل أغلبها تصب في هذا المكان بالضبط. فوظيفة الخطوط هنا ليس فقط تجميل الجملة، أو تصديرها ضمن قالب لا نمطي، بل جعل الخط أداة جديدة يمكن أن يستند إليها القارئ في فهم الجملة، حيث يعقّد الخط ما هو معقّد في النص، ليكون اشتغال القارئ على تفسير المعقّد من الخطوط، هو اشتغاله على تفسير المعقد من معانيها، فتطيل العيون وقتها في أحرف إحدى الكلمات، وتشتغل على تركيبها لتكون كلمة ذات معنى وضمن سياق واضح، فتظهر كلمة “إمام” ضمن جملة “لا إمام سوى العقل”، تلك الكلمة التي تشكل أصعب ما يمكن فهمه في جملة كهذه، وهو ما جعل من الشعراني يسهّل قراءة كلمة “العقل” ويصعّب كلمة “إمام”، فيأخذ الذهن ما للكلمة من حق في الفهم، ويستوعبها إن شاء.
الخط ليس ابن التراث، وليس ابن المنظومة الدينية، بل هو ابن الإنسان مستخدم اللغة، ابن يومه وحاضره، لذا يجب إخراجه من سجن “التقديس” والتعاطي معه على أنه مادة جامدة، نحو اعتباره مادة خامًا يمكن بناء أشكال جديدة منه، قد لا تنسجم مع مقاسات التراث وأشكاله الجاهزة الثابتة، فتظهر رسوم جديدة تواكب معاني أيضًا قد لا تكون ابنة التراث، وتتماشى الرسوم مع المعاني، فتثخن حينًا وتضمحل حينًا، وتقسو وتلين، وفق هذا المعنى، وما على الشعراني هنا إلا ضبط هذا الارتباط بين الشكل والمعنى، بإيقاع مناسب يسهم في جمالية الجملة، وشكل استيعابها، ذلك تمامًا هو ما يبدو من مشروعه “إيقاعات خطية” الذي لم يتح له شخصيًا حضور افتتاح المعرض الخاص به في لندن، حيث لم يمنح الفيزا إليها.
كما على جدران معارض كبرى في لندن وباريس وبرلين وغيرها، هناك جدار صفحته يتيح فيه تلك اللوحات بدقة عاليةً، ناقلًا أيضًا هذا المحتوى نادر الوجود على الفيس بوك بهذه السوية، إلى متابعيه وأصدقائه، فتلك اللوحة لم ترسم لعرض خاص على جدار عاصمة بعيدة، إذ يواكب الشعراني في صفحته كل جديد ينجزه، ليأخذ صدى وانتشارًا بشكل الجملة ومعناها.
يدرك الشعراني كم وُظّف الخط العربي في تسويق الأيديولوجيات، والمفاهيم والشعارات، وكمل مقولة وجملة سوّقها الخط عبر التاريخ، ومنحها قدسية معينة نافيًا ما قد تلعبه تلك المقولة من دور سلبي في الحياة بشكل ما، أدرك أن الخط وجد بصورته البراقة على أعلى المباني الرسمية، وعلى لافتات غطت جماعات بشرية بمحتواها وجمال كتابتها، وجدت على أسلحة أيضًا وعلى رصاص وصواريخ، فيحاول لاهثًا البحث عن نقلة ما تغير ما تستطيع من كلاسيكية استخدام فن الخط، وأنماطه، ودوره في تشكيل الفهم، واستيعاب الكلمة.