لا ثقافة إلا من فروع المخابرات, ولا صحافة إلا مما يرضي نزقها ومزاجها
الصحافة في سوريا.. المهمة شبه المستحيلة
«إن كل الحرية المعطاة في العالم العربي لا تكفي كاتبًا واحدًا لكي يكتب بالجسارة التي يحلم بها»، كانت تلك صرخة يوسف إدريس، الروائي المصري، عن الحريات في العالم العربي، والتي تداولها لفرط ملامستها للوجع وقربها من واقع كثير من الكتاب العرب.
وإذا كان يوسف إدريس يصف بتلك العبارة كمية الأوكسجين المتاحة لتنفس الكتّاب على امتداد الوطن العربي في زمنها فأي عبارة من شأنها أن تصف مساحة الحرية المتاحة للكتابة في سوريا في ظل الصراع الدائر اليوم؟
كيف نكتب والأقفال في فمنا، وكل ثانية يأتيك سفاح
مع تضاعف الحاجة في الحرب إلى الإعلام والثقافة تزداد القيود عليها، وتضيق مساحتها بالاضطراد مع تزايد إلحاحها، أمام اتساع مساحة الرقابة والمنع والقمع. لتصبح ممارسة الصحافة الحرة والكتابة «المهمة شبه المستحيلة» وتصبح سوريا بامتياز «مقبرة الصحفيين»، حيث يهددهم فيها خطر الاعتقال والخطف والقتل والتعذيب من قبل الحكومة السورية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، أو من قبل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في المناطق الخاضعة لسيطرته، في كل لحظة يمارسون فيها عملهم.
ليغدو سؤال نزار قباني، الذي تضمنته إحدى قصائده في العشق الدمشقي، «كيف نكتب والأقفال في فمنا .. وكل ثانية يأتيك سفاح» أكثر إيلامًا وملاصقة للواقع من أي وقت مضى.
عن الضغط الذي لا يمكن قياسه
رغم أن المنظمات الحقوقية ومؤسسات حماية الصحافة تسعى لتوثيق ورصد حالات اعتقال الصحفيين والتضييق على الإعلاميين أو انتهاك حرية الكتابة، وتحاول رصد العنف الذي يتعرض له العاملون في هذا الميدان، إلا أن ثمة نوع آخر من كسر الأصابع لعلّه الأشد فتكًا تتم ممارسته باستمرار ولكن لا يمكن رصده، ففي حين توثق المنظمات حالات انتهاك جسد الحرية، تغتصب روح الحرية كل يوم ولا أحد يأبه لها.
وإن كان عدد الصحفيين الذين لقوا حتفهم في عام 2014، بحسب التقرير السنوي للجنة حماية الصحفيين ومقرها نيويورك، 17 صحفيًا على الأقل، و79 صحفيًا منذ بدء الصراع عام 2011، فكم عدد نفوس الكتاب التي ماتت؟ وكم رغبة في الكتابة اغتصبت بكرًا؟
وإذا وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 31 حالة اعتقال للصحفيين منذ اندلاع الأحداث في البلاد، فكم قلمًا قد اعتقل ونفي بعيدًا عن عيونهم؟
حين يكون من الممكن تعرّض أي صحفي أو مصوّر حتى لو كان لديه تصريح بالعمل للاعتقال، فعلى من يريد أن يكتب دون أن يكون بوقًا للسلطة أن يعي أنه إذ يرفع قلمه فعليه أن يحمل نعشه، ويستعد للسير في أول الجنازة، وأن يعتاد النوم بين القبور كما يعتاد المرور على الحواجز.
تلك الدقائق تفرضها حالة التأهب الأمني والإجراءات الأمنية المشددة التي يواجهها الصحفي كل يوم، حين يحتفظ الجندي بالهوية محدقًا في عيون صاحبها، تعيد كل مرة إشعال ضرام الرعب في دمه، تلك الدقائق التي تصفها إحدى كاتبات دمشق -والتي فضلت عدم ذكر اسمها لأسباب أمنية- بالقول «ذلك الضغط لا يمكن قياسه ولكنه لا يكسر الأصابع والأقلام فحسب، بل يكسر الظهر».
وقد وصف الشاعر والصحفي السوري فرج بيرقدار هذه الحالة قبيل اعتقاله في كتابه خيانات اللغة والصمت بالقول «في رأسي ما يشبه الفجوات وما يشبه الموج، وما يشبه عنفات شيطانية تدور على نحو مجنون وفي أكثر من اتجاه».
تقول كاتبة صحفية في دمشق: الدقائق أمام الحاجز تجعلني أستعيد تفاصيل «القوقعة» ورحلة الدكتور براء «من تدمر إلى هارفرد» و «خيانات اللغة والصمت» دفعة واحدة، تجعلني أتمنى لو أنني لم أكتب حرفًا وتحيل أمام ناظري كل شجاعاتي الأدبية كأحمق حماقاتي، ثم تتساءل: «كيف بعد ذلك نكتب؟».
تجويع الصحفيين
مفردات التضييق على أرباب الأقلام لا تقتصر على سياسة الملاحقة والرعب، بل تتسع لتشمل «التجويع» وإن كان المفهوم من الكلام هو «الجوع» الذي يحدث في المعدة، وهو صحيح حيث لا يطعم العمل في الكتابة في سوريا خبزًا، لكن المقصود به هنا هو الجوع الفكري، ذلك الجوع الذي يحدث في الدماغ.
فالسلطة لا تصادر الأقلام وتمنح السجون فحسب بل تصادر مصادر المعرفة، فلا ثقافة إلا من فروع مخابراتها، ولا صحافة إلا ما يرضي نزقها ومزاجها، المكتبات لديها احتكار والممنوعات في قائمتها من الكتب تفوق المسموحات، والمحجوب من المواقع الإلكترونية أكثر من المفتوح، وحبر الصحفي دمه وخبزه عليه أن يقطع آلاف الأميال ليصله.
وحدة الصحفي
في إمبراطورية الرعب السورية حيث لا دورات تدريبية للكاتبين من غير أبواق الحكومة، ولا تشجيع أو تحفيز، ولا أي شيء من مفردات الحياة الفكرية أو الثقافية أو الصحفية، لا مكتبات للاستعارة إلا مكتبة الأسد ولا نواد للمثقفين ولا أماكن لالتقاء الصحفيين؛ ينعزل الكاتب ثم تموت نفسه و تذبل أصابعه ويتخلى عن أوراقه.
مهمتان بواحدة
العنف الأقصى الذي يواجهه الصحفيون والمواطنون الصحفيون، مصحوبًا بالمصاعب التقنية المعروفة إضافة إلى هيمنة السلطة على كل وسائل الإعلام يجعل من عملية جمع المعلومات ونشرها عملية في غاية الصعوبة والتعقيد.
وفي حين يكون الحصول على الخبر وطرحه بأسلوب جيد شغل الصحفيين الشاغل في كل بلاد الدنيا، يكون هاجس الصحافي السوري أن يختبئ خلف مقاله وأن يبعد العيون عنه، فالحصول على تصريح صحفي يحتاج بالإضافة للجهد في الحصول عليه، إلى جهد مضاعف في أن لا تُعرف هويته وأن لا تُعرف هوية صاحب التصريح وأن لا يَعرف من يحدثه هويته وصفته، لأن الملاحقة لا تستثني أحدًا.
وهكذا، بين مطرقة قمع نظام الأسد وسندان مطرقة الجماعات المتطرفة المسلحة التابعة لمعسكر المعارضة، يئن الصحفيون في جميع أنحاء سوريا سواء أكانوا محليين أم أجانب، هواة أم محترفين، وتداس تلك المهمة المقدسة في السعي لإظهار الحقيقة بأقدام العكسر.
يشار إلى أن هذا التقرير كتب بعد الجلسة الأخيرة لمحاكمة مازن درويش رئيس المركز السوري لحرية التعبير والإعلام ورفيقيه حسين غرير وهاني زيتاني بتاريخ 25 آذار 2015، حيث قررت محكمة الإرهاب في دمشق تأجيل جلسة النطق بالحكم في القضية للمرة الثامنة بسبب غيابه؛ بعد سنوات ثلاث من الاعتقال التعسفي.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :