ضياء عودة | محمد حمص | نور عبد النور
لسبب غير معلوم، اعتقلت قوات الأمن السورية الإعلامي وسام الطير، مدير موقع وصفحة “دمشق الآن” الإخبارية، في كانون الأول الماضي، بعد أن داهمت دورية أمنية مكتبًا كان الطير فيه برفقة مراسل إذاعة “شام إف إم”، سونيل علي، وصادرت معداتهما.
الصادم في الاعتقال أنّ شبكة “دمشق الآن” ومديرها الطير، كانا قد تصدرا الساحة الإعلامية والدعائية من جانب النظام السوري في الإعداد النفسي للحملة العسكرية على الغوطة الشرقية، في 18 من شباط الماضي، بالإضافة للتنسيق والتوفيق بين الراغبين بالتسوية من طرف المعارضة مع قوات الأسد وروسيا.
ناشطون تداولوا أن سبب اعتقال الطير هو تعاونه مع وسائل إعلام عالمية، واعتبر آخرون أن انتقاده المتكرر لمسؤولين في حكومة النظام هو ما أدى إلى اعتقاله، لكن الطير، الذي كرمته أسماء الأسد، كان من السباقين لتغطية أخبار قوات النظام، وتجمعه مع ضباط فيها علاقات جيدة، كان من المفترض أن تحميه من مصير مجهول.
عقب اعتقال الطير توقفت “دمشق الآن” عن نشر وبث الأخبار لفترة أسبوعين، قبل أن تعود للبث دون أن تتحدث عن آخر أخبار مديرها المجهولة حتى هذه اللحظة.
الطير ليس الإعلامي الوحيد الذي أبدى ولاءً للنظام لم يجزَ عليه، إذ تكررت خلال الفترة الماضية حوادث التضييق على الإعلاميين والصحفيين في مناطق سيطرة النظام.
في القبضة الأمنية.. التضييق سيد المشهد
سبقت اعتقال الطير حادثتا اعتقال طالتا ثلاثة إعلاميين يعملون لصالح وسائل إعلام محلية، إذ ذكر موقع “هاشتاغ سوريا” المحلي أن الصحفي عامر دارو، الذي عمل لعدة وسائل إعلام لبنانية، اعتقل، في آب الماضي، بسبب توصية من “مسؤول حزبي رفيع المستوى”.
كما اعتقلت الأفرع الأمنية التابعة لحكومة النظام السوري الصحفيين إيهاب عوض ورولا السعدي العاملين في موقع “هاشتاغ سوريا”، على خلفية التخبط الناجم عن قرار “الدورة الاستثنائية” للامتحانات الجامعية، في الصيف الماضي، بعد تفتيشهما وتفتيش كاميراتهما والتأكد من خلوها من أي صور أو فيديوهات من ساحة الأمويين.
وذكر موقع “سناك سوري” المحلي، أن الصحفيين احتُجزا في ساحة الأمويين، حيث كان من المفترض أن يكون هناك اعتصام لطلاب يطالبون الحكومة بإصدار قرار “الدورة التكميلية”، منوهًا إلى أن التوقيف تم “من قبل جهاز أمني وليس من قبل وزارة الداخلية رغم أنهما صحفيان ومدنيان”.
جريمة معلوماتية
معظم تلك الاعتقالات التي طالت صحفيين محليين، والتي قد تطول آخرين مستقبلًا، جُيرت ضمن قانون “الجرائم المعلوماتية” الذي صدر ضمن قانون الإعلام الإلكتروني رقم 26 لعام 2011، لتنظيم التواصل مع العموم عبر الشبكات وضوابط الإعلام والنشر، الذي يتم عبر المواقع الإلكترونية، قبل أن تصدر آخر التشريعات بخصوص جرائم المعلوماتية، في المرسوم التشريعي رقم 17 لعام 2012.
ولعل معظم الاتهامات الموجهة لبعض الصحفيين أو الإعلاميين تُدرج تحت بند “قدح وذم شخصيات عامة عبر وسائل التواصل الاجتماعي”، أو “التعدي على خصوصياتهم بنشر معلومات، حتى لو كانت صحيحة” وهذا ما حدث مع الإعلامي رئيف سلامة الذي اعتقل، في نيسان الماضي وأفرج عنه مطلع أيار الحالي.
وذكر الصحفي الذي يعمل لصالح عدة جهات منها قناة “العالم” و”الإعلام الحربي” و”القيادة القطرية” وفرع “حزب البعث” في حمص، عبر صفحته على “فيس بوك”، أن التهم التي وجهت إليه هي الاشتباه بامتلاكه صفحة على “فيس بوك” ونشره منشورًا مسيئًا لوزير الصحة، مشيرًا، إلى عدم وجود أي دليل أو إثبات على هذه الاتهامات.
وفي حادثة أخرى، اعتقلت أجهزة النظام السوري الأمنية مدير موقع “هاشتاغ سوريا“، محمد هرشو، في نيسان الماضي، بعد نشره خبرًا عن نية الحكومة زيادة سعر البنزين، وسط أزمة المحروقات الحادة التي عصفت في البلاد، ما أدى لهجوم شنته وزارة النفط السورية على الموقع واتهمته بأنه المتسبب في الازدحام على محطات البنزين بسبب نشره لخبر “كاذب”.
وأفرج النظام السوري عن هرشو بعد بيان مقتضب للموقع أوضح فيه الخبر الذي نشره بأن موضوع زيادة سعر المحروقات هو “مطروح للدراسة” ولم يتم اتخاذ أي قرار بشأنه، واعتذر الموقع من المتابعين.
الإعلام خطيئة مَن؟
عاد هرشو وتصدر المشهد الإعلامي المحلي بعد خبر إغلاق صحيفة “الأيام” الأسبوعية، التي يمتلكها، بعد قرابة سنتين ونصف من انطلاقها.
وأغلقت الصحيفة وودعت قراءها في العدد الأخير الذي حمل الرقم 115، وكتبت على غلافها بالخط الأحمر “الإعلام خطيئة مَن؟”.
وأعلن رئيس تحرير الصحيفة، علي حسون، بعد أيام، اعتزال العمل الصحفي بشكل نهائي، وكتب افتتاحية العدد الأخير بعنوان “استراحة محارب“، اعتبر فيها المرحلة الحالية هي “الأقسى” في تاريخ الصحافة السورية، بسبب تزايد التضييق على حرية العمل الصحفي ولأن “سلطة الخوف باتت تتحكم بأقلام الصحفيين”.
وتحدث حسون عن تراكم ثقافة الخوف التي توارثتها أجيال من العاملين في الحقل الإعلامي في سوريا، ودفعت معظم الصحفيين لوضع أقلامهم “رهن الإقامة الجبرية”، مع إمكانية توقيف أي صحفي، فهو مشروع متهم حتى تثبت براءته.
واعتبر حسون، في منشور اعتزاله، أن العمل الصحفي أصبح “ضربًا من الجنون” في المرحلة الحالية، نظرًا إلى ما يتعرض له الصحفيون السوريون من تضييق وضغوط أصحاب السلطة والنفوذ.
سيمفونية واحدة.. وهم الحرية “مؤقت”
لم يختلف وضع الإعلام والعمل الصحفي في سوريا منذ استلام “حزب البعث” السلطة في عام 1963 حتى اليوم، إذ لم يخرج عن السيمفونية التي عبّر عنها وزير الإعلام في عهد حافظ الأسد، أحمد إسكندر بقوله إن “الإعلام السوري كلّه مثل فرقة سيمفونية يقودها مايسترو هو وزير الإعلام، وكل عازفيها ينظرون إلى العصا التي يحملها ويعزفون حسب حركتها”.
بوصول “حزب البعث” أُعلنت حالة الطوارئ وصدر حكم عرفي أوقفت بموجبه تراخيص الصحف والمطبوعات وأغلقت المجلات وصودرت المطابع وجميع أدوات الطباعة، ورُسمت سياسة وسائل الإعلام في سوريا، آنذاك، وفقًا لمبادئ الحزب وسياسة الدولة القائمة، إلى أن صدر قانون المطبوعات في عام 2001 الذي أعطى الحق بإنشاء وسائل إعلام خاصة لأول مرة منذ عقود.
منح قانون المطبوعات رقم 50 في 2001 السلطات التنفيذية الحق الكامل بالتدخل دون إذن في حركة النشاط الإعلامي ووسائله، ورسخ مبدأ تسخير الصحافة ووسائل الإعلام لأفكار الفئة الحاكمة، كخطوة لضمان سيطرتها على الرأي العام.
كانت صحيفة “الدومري” أول تجربة مستقلة بعد صدور قانون الإعلام الجديد، إذ لم تكن في سوريا صحف ومجلات خاصة، لكن سرعان ما ضيقت الحكومة السورية عليها في عام 2003 حتى أجبرتها على التوقف، ولوحق الصحفيون والسياسيون مجددًا واعتقلت السلطات عددًا منهم في العام 2005، الأمر الذي أعطى صورة على موقف حكومة الأسد الابن من أي صحافة خاصة مستقلة تخرج عن فلك الإعلام الحكومي.
طفرة في أربع سنوات
عشر سنوات مرت على صدور قانون المطبوعات الجديد، حتى أصدر رئيس النظام السوري بشار الأسد القانون رقم 108 لعام 2011 الخاص بالإعلام، وجاء بالتزامن مع انطلاقة الثورة السورية وتوسع رقعة الاحتجاجات السلمية في عدة محافظات سورية، وما رافق الأمر من بروز عمل صحفيين وناشطين سوريين امتهنوا الإعلام لتغطية المظاهرات السلمية ونشرها على شبكة الإنترنت لإيصالها إلى وسائل الإعلام العربية والأجنبية، في مشهد لم يسبق له مثيل في سوريا.
انبثق عن قانون الإعلام 2011 ما يسمى بـ “المجلس الوطني للإعلام”، وتحدد هدفه برسم سياسة الإعلام، ومنح صلاحية الترخيص لوسائل الإعلام الخاصة المختلفة، إضافة إلى منح المجلس صلاحية اعتماد المراسلين العرب والأجانب أو السوريين العاملين لوسائل إعلام خارجي.
وبحسب ما قال صحفي سوري في دمشق لعنب بلدي (طلب عدم ذكر اسمه) فإن تشكيل المجلس في 2011 جاء، فيما يعتقد، لإجراء إصلاحات في مجال الإعلام، وتطويره في سوريا بالرغم من أن تشكيله لم يقدم شيئًا نتيجة هيمنة النظام السوري ورواية مخابراته على الإعلام.
وأضاف الصحفي أن الهدف الرئيسي من تشكيل المجلس إيصال صورة للعالم بوجود إعلام حرّ في سوريا، يشرف عليه خبراء من القطاع الخاص والعام، لكنه لم يكتب له النجاح والاستمرار فقد أصدر بشار الأسد مرسومًا، في آب 2016، ألغى بموجبه المجلس بسبب عدم تكامل المهام بين عمله وعمل وزارة الإعلام.
وما بين عامي 2011 و2016 كانت ذروة التغطيات الإعلامية في سوريا، والتي تصدرها صحفيون وشبكات ومواقع محلية أتاح لها النظام السوري العمل في المناطق التي يسيطر عليها، وفي ساحات العمليات العسكرية، وإلى جانبها ظهرت مئات الصفحات الإخبارية عبر مواقع التواصل الاجتماعي حملت مسميات بالمناطق التي تغطي الأخبار منها، ورغم تركيزها على الوضع الخدمي والمعيشي، لم تخرج عن الحد المسموح به في سوريا، دون التعرض للمواضيع السياسية أو التي قد تشكل خرقًا في بنية النظام.
وبمقاربة بسيطة نجد أن النظام السوري بإصداره قانون الإعلام في 2011 والذي انبثق عنه المجلس الوطني للإعلام، سعى إلى إعطاء هامش حريات لصحفيين وناشطين يدورون في فلكه، محاولًا بذلك دعم البروباغندا الخاصة به من خلال “الحرب على الإرهاب”، وإظهار الثورة السورية كمؤامرة تستهدف البلد والأمن القومي.
ولم يكن توقيت إلغاء المجلس الوطني للإعلام في 2016 مصادفة، بل جاء في الوقت الذي اقترب فيه النظام السوري من السيطرة على المناطق التي خسرها، إذ تحسس بعد أربع سنوات من خطر الشخصيات الإعلامية التي صدّرها، كونها استقطبت جمهورًا كبيرًا، وبدأت بالنقد وإعطاء الرأي، متجاوزة بذلك الهامش المسموح العمل ضمنه.
سلاح في ساحة الحرب
بعد العام 2011 اتجهت وسائل الإعلام إلى فضاءات أكبر بعد طغيان وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال لم تعد تجدي الصحف المطبوعة لدعم فكرة ما أو إيصالها بقدر الحيز الذي يتيحه لذلك الإعلام الالكتروني، وقد راج بعد عام 2011 وانطلاقة أحداث الثورة عمل الناشطين على الأرض والصحفيين الميدانيين، وتعزز دور الصحفي المواطن.
ومع انتشار صحافة المواطن وتحولها في بعض الحالات إلى إعلام محترف ومؤثر، لم يعد إعلام الأسد الرسمي قادرًا على مواجهة هذه الظاهرة، لذلك أدرك ضرورة الوجود في مواقع التواصل الاجتماعي التي طغت بمتابعتها على الإعلام التقليدي، فكان لا بد له من دخوله هذا الفضاء.
يقول الصحفي والحقوقي منصور العمري، إن ممارسات النظام السوري بدأت في فضاء الإعلام الاجتماعي بتأسيس مراكز تابعة لقوى الأمن تلاحق المنشورات والحسابات المتعلقة بالأحداث، وتنشر البروباغندا وتقرصن الصحف وصفحات الناشطين وغيرهم.
وفي الإطار ذاته سمح نظام الأسد بإنشاء صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي ذات طابع إخباري، بإشراف مخابراتي، بحسب العمري، الذي يضيف أن هدفها كان مواجهة الصفحات الإخبارية المعارضة له والمواقع الإخبارية المستقلة وصفحات الناشطين الصحفيين، كما عملت على نشر أخبار ملفقة في إطار الحرب النفسية، وللتضليل المعلوماتي في المعركة العسكرية، ولنشر رواية النظام عن الأحداث في الفضاء الاجتماعي الذي يستقطب أكبر عدد من الجمهور.
ويرى العمري أن الإعلام بتعبير الأسد هو إحدى ساحات الحرب القائمة، لذلك في الوقت ذاته، ومع انتشار عدد من صفحات الناشطين الإعلاميين والصفحات المؤيدة له، التي تنتقد أحيانًا الحكومة، اضطر خوفًا من انتشار النقد وانفلات الطوق الذي يحكمه حول الإعلام السوري، لإصدار قوانين تحكم سيطرته حتى على منشورات الأشخاص العاديين في فيسبوك وغيره.
“صدقوا حالهم”
رغم الهالة الإعلامية الكبيرة التي أحاطت ببعض الصحفيين والناشطين الإعلاميين في مناطق سيطرة النظام السوري على مدار السنوات الماضية، لم يوفر ذلك لهم حرية العمل وإبداء الرأي، فالتضييق الذي بدأه النظام السوري منذ منتصف العام الماضي حتى اليوم أعطى مؤشرًا على أنه كان يبيعهم “وهم حرية الصحافة” من أجل أفكاره التي أراد أن يوصلها منذ الأشهر الأولى لانطلاقة الثورة السورية.
وما يصب في سياق ما سبق أن النظام السوري حاول الإيحاء للناس بأنه حسم المعركة مع فصائل المعارضة عسكريًا وانتصر، وأظهر التقدم الذي أحرزه على الأرض، وذلك من خلال سماحه لإعلاميين وشبكات محددة بالدخول إلى الأرض وساحة المعارك لتغطية “انتصاراته”.
عمل الإعلاميين والشبكات لم يكن كيفيًا، بل كان النظام يتحكم بما يخرج للشارع والفئة المستهدفة، واعتمد بذلك على شخصيات محددة، مثل مراسل قناة “روسيا اليوم”، إياد الحسين، ومدير صفحة “دمشق الآن” وسام الطير.
ويرى مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، في حديث لعنب بلدي أن النظام السوري اختار شخصيات إعلامية محددة للعب دور محدد، وسمح لها بالدخول إلى المناطق التي تم تهجيرها.
لكن فيما بعد اختلفت الأوضاع وكسب الصحفيون الذين صدّرهم النظام هامشًا واسعًا ومتابعين وجمهورًا، وأصبحت لهم حيثية ودور، وهو أمر رفضه النظام السوري وعمل على عدم تمريره، وكان ذلك بالتزامن مع تدهور الخدمات من ارتفاع أسعار الغذاء والمحروقات.
وبحسب العبد الله، اعتقد الصحفيون أنهم باتوا مؤثرين، وأضاف، “بالمعنى العامي صدقوا حالهم بالقدرة على النقد”، وكان لضغط الناس والرأي العام دور مساعد في ذلك، إذ ضغط عليهم للحديث عن سوء الخدمات.
وحاول الصحفيون الاستفادة من تلك القيمة التي كسبوها، إضافةً إلى اللعب على وتر “الدعم”، على أنهم مقربون من مسؤولين في السلطة، ولديهم القدرة على الوصول إلى كل المناطق، وخاصة التي تشهد عمليات عسكرية.
الدوران في فلك النظام
رفض النظام الدور الجديد للصحفيين “بسبب تجاوزهم الحد، واتجاه عملهم إلى تجييش الناس بموضوع الخدمات وانقطاعها، إلى جانب بروز صوت نقدي لهم مرتفع داخل البلاد”، بحسب العبد الله.
وربما تتخلص فكرة النظام السوري في الوقت الحال، بحسب العبد الله، بعبارة “استفدنا منكم برسائل محددة لكنها لا تعني السماح لكم بالنقد”، الأمر الذي اضطر إلى عمليات الاعتقال، ولو كانت لفترة محددة لا تطول.
ورغم أن حوادث الاعتقال التي طالت صحفيين في مناطق النظام السوري محدودة العدد، إلا أنها تعطي صورة حقيقية عن طبيعة تفكيره، وهي من وجهة نظر العبد الله “إذا أردت العمل بالقرب مني وكجزء من آلتي الإعلامية وتدور في فلكي لن يسمح لك بإعطاء رأيك الخاص”.
ويرى مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة” أن النظام السوري لن يسمح بإعطاء الضوء الأخضر لنشوء إعلام مستقل غير مرتبط بأجهزة الأمن بشكل مباشر.
وفي السياق ذاته يقول الصحفي والحقوقي، منصور العمري، إن إعلام البروباغندا هو أحد الأعمدة الرئيسية للأنظمة الديكتاتورية، ولا تنجح هذه الأنظمة بالسيطرة على الإعلام إلا من خلال قمع أي إعلام آخر قد يقدم ما يخالف الرواية الرسمية.
ويضيف أن أي حلحلة حقيقية للقبضة الأمنية على الإعلام ستضعف أعمدة هذه الأنظمة وتفضح فسادها وإجرامها، وهو ما يعلمه جيدًا نظام الأسد الذي قد يسمح ببعض ما يذر الرماد في العيون، لكنه بعد أن قتل وشرد أكثر من نصف الشعب السوري من أجل الحفاظ على موقعه، لن يفسح المجال عن طيب خاطر بانتشار حرية الإعلام، بل على العكس سيشدد قبضته ويواكب التطورات التكنولوجية لتحقيق ذلك.
رغم الولاء المعلن..
التضييق يواجه مراكز التدريب الإعلامي
يستطيع أي سوري “حاصل على شهادة جامعية ولديه خبرة إعلامية” أن يفتتح مركزًا للتدريب الإعلامي، وفق ما يشير إليه موقع “بوابة الحكومة الإلكترونية السورية” الرسمي، عن مديرية التراخيص في وزارة الإعلام.
ومن المفترض أن تقوم المراكز المفتتحة بـ “ممارسة التدريب المهني بأسلوب حديث ومفيد للمتدربين ويساعدهم على الارتقاء المهني لتقديم إعلام حديث وعصري”، كشرط للترخيص، على أن تكون “الأجور التي يتقاضاها المركز من المتدربين معقولة ومناسبة للحالة الاقتصادية السورية”، كما يتوجب أن يكون المتدربون على مستوى علمي وثقافي جيد وحاصلين، كحد أدنى، على شهادة الثانوية.
بالمقابل، لم تكن الاستجابة كبيرة تجاه إمكانية الترخيص، التي تستند إلى أحكام قانون الإعلام السوري الصادر في المرسوم التشريعي رقم 108 للعام 2011، وتعديلاته لعام 2016،
إذ تنشط معاهد معدودة في إقامة دورات إعلامية في مدينة دمشق غالبًا، أو في محافظات أخرى على نطاق أقل.
تدريبات برعاية “البعث”
رغم تزايد عدد الوسائل الإعلامية في مناطق سيطرة النظام خلال الأعوام القليلة الماضية، لم تتوفر بالمقابل كوادر مؤهلة، وذلك لقلة عدد ذوي الخبرة في الإعلام أو دارسيه داخل سوريا، ونتيجة ذلك نشأت بعض مراكز التدريب الإعلامي وأغلبها في مدينة دمشق.
عنب بلدي رصدت نشاط ثلاثة مراكز تقدم تدريبات إعلامية بشكل منتظم في دمشق، وتروّج لهذه التدريبات عبر “فيس بوك”، وهي “مركز الشرق الأوسط للتدريب الإعلامي” و”نادي المراسلين الشباب”، و”معهد الإعداد الإعلامي” التابع لوزارة الإعلام، بينما تقدم مراكز أخرى تدريبات متفرقة في التصوير والمراسلة والإلقاء الإذاعي.
ويعمل بعض مدرّسي كلية الإعلام في هذه المدارس، إلى جانب عاملين في التلفزيون السوري، ومدربين لبنانيين وإيرانيين.
وتعكس الصفحات الخاصة بهذه المراكز طبيعة ولائها السياسي، إذ تدير “نادي المراسلين الشباب” الإعلامية رائدة وقّاف، المعروفة بمواقفها الموالية للنظام والتي كانت تدير قناة “سوريا دراما” الحكومية، بينما يشاركها في بعض التدريبات، المخرج الإيراني، محمد رضا عباسيان.
كما تحضر صورة رئيس النظام، بشار الأسد، في قاعات التدريب ضمن “معهد الإعداد الإعلامي”.
إضافة إلى ذلك، يقيم “حزب البعث” تدريبات إعلامية في المحافظات بشكل دوري، غالبًا ما يقدمها المدرّس في كلية الإعلام، أحمد الشعراوي، والتي تُخرج بدورها العشرات من المنتسبين.
ويمنع النظام السوري إقامة دورات تدريبية في مجال الإعلام، إلا بعد الحصول على موافقة مسبقة من وزارة الإعلام التابعة له، إلا في حال كان المركز الذي يقوم بالتدريب مرخصًا.
ومنع تعميم صدر عن رئيس وزراء حكومة النظام السوري، عماد خميس، عام 2017، تنظيم حوارات تدريبية بمسمى دورات تدريبية مأجورة خاصة بالإعلام، ردًا على إقامة دورات تدريبية
خاصة من قبل مراسلي الوكالات والقنوات الموالية للنظام السوري، منها دورة تدريبية لمراسل إذاعة “شام إف إم”، سومر حاتم، في مدينتي اللاذقية وطرطوس
كلية الإعلام تحارب المراكز.. لا مزيد من التراخيص
بينما يشارك بعض مدرّسي كلية الإعلام في العمل ضمن مراكز التدريب الخاصة، هاجم عميد الكلية، محمد العمر، ونائبته، نهلة عيسى، المعروفين بولائهما للنظام السوري، تلك المراكز.
واعتبر العمر في تصريحاته لصحيفة “الوطن” المحلية، في أيار الماضي، أن مراكز التدريب الإعلامية في سوريا “دكاكين إعلامية” غايتها الربح، معتبرًا أنه لا يحق لمركز التدريب من الجانب القانوني والمهني أن يمنح صفة إعلامي للمتدرب.
وطلب العمر من وزارة الإعلام واتحاد الصحفيين وضع حد “لهذه المهزلة”، لافتًا إلى وجود حديث عن العمل على الحد من هذه المراكز غير المرخصة ومحاسبتها، موضحًا أنه في الفترة الأخيرة لم يتم منح أي ترخيص لأي مركز.
أما نهلة عيسى، فاعتبرت خلال اللقاء ذاته مع “الوطن”، أن الذين يتبعون هذه الدورات غير حاصلين على شهادة تعليم ثانوي، و”يحصلون على شهادات توهمهم وتؤهلهم قانونيًا نظرًا إلى أنها موقعة من اتحاد الصحفيين ووزارة الإعلام”.
وبررت عيسى ذلك بأن مهنة الإعلام أصبحت “مستباحة” و”مهنة من لا مهنة له”، والدليل بحسب تعبيرها، “وجود مئات الأسماء على مواقع التواصل تطلق على نفسها لقب إعلامي بينما لم يحصلوا على شهادة الثانوية”.
أنماط تقليدية وخطاب كراهية.. إعلام “يراوح مكانه”
تزايد عدد وسائل الإعلام في مناطق سيطرة النظام في السنوات الأخيرة، بتأثير التوجهات الإعلامية الجديدة المرافقة لإصدار قانون الإعلام عام 2011، والذي شجّع على ترخيص صحف ومواقع إخبارية وإذاعات جديدة.
وبالرغم أن هذه الطفرة في أعداد وسائل الإعلام ترافقت مع طفرة مماثلة في مناطق سيطرة المعارضة السورية أو القوات الكردية أو حتى خارج سوريا، لكن الظروف التي حُكمت بها هذه الوسائل وطبيعة السيطرة الأمنية والإطار القانوني الإعلامي لم يتيحوا أمامها فرصة مريحة للتطور المهني، إنما ظلت تلك المحاولات رهينة مخاوف أمنية.
ونتيجة ذلك، أُحبط الصحفيون الراغبون في الانفتاح على مفاهيم مرتبطة بالإعلام، ككسر النمطية في القوالب الصحفية، وتوظيف الإعلام لخدمة المواطنين، والابتعاد عن خطاب الكراهية، أو تحقيق مستويات متقدمة من حرية التعبير، واضطر العاملون في هذا المجال إلى خوض المهنة بما يبقيهم في مأمن من المساءلة أو الاعتقال.
قوالب متشابهة
تغلب القوالب الخبرية على أغلب الإنتاج الصحفي لوسائل إعلام النظام، وخاصّة في المواقع الإلكترونية الناشئة أو الحديثة نسبيًا، مثل مواقع “هاشتاغ سوريا” و”وكالة أوقات الشام”، وموقع “سناك سوري”.
ومن خلال رصد الإنتاج اليومي لهذه المواقع، يُلاحظ أن أغلب المواضيع التي تتناولها هي محليات ومنوعات في الغالب، في شكل أخبار أو تقارير.
كما تبتعد أغلب تلك الوسائل عن التحقيقات الاستقصائية، التي تقوم على الكشف والمساءلة والوصول إلى أكبر قدر من المعلومات، وهو ما يمكن أن يدفع الصحفي أو المؤسسة ثمنه غاليًا.
فعلى سبيل المثال، برزت جريدة “الأيام” كجهة نشطة في إنتاج التحقيقات الصحفية داخل سوريا خلال العامين الماضيين، لكنها واجهت تضييقًا متكررًا، إذ منع النظام صدور أحد أعدادها في تشرين الأول الماضي، قبل أن تُغلق في أيار الماضي إثر اعتقال مالكها، محمد هرشو.
بالمقابل، ازداد توجّه التلفزيونات الحكومية والموالية إلى البرامج الفنية والترفيهية، على حساب البرامج الاجتماعية أو المحلية الخدمية، فعلى سبيل المثال، لأول مرة يقدم ثلاثة ممثلين سوريين برامج مسابقات متزامنة، الأول “كاش مع النجوم” تقدمه شكران مرتجى وباسم ياخور على قناة “لنا”، و”صفار كتار” يقدمه أيمن رضا على الفضائية السورية.
أعلى نسبة “خطاب كراهية”
يستخدم الإعلام السوري الرسمي الموالي له خطاب الكراهية أكثر من الإعلام المعارض أو الناشط في مناطق سيطرة القوات الكردية، حسبما أكدته دراسة “خطاب الكراهية في الإعلام السوري” الصادرة عن “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” والتي نُشرت نتائجها في آذار الماضي.
وقالت الدراسة إن متوسط استخدام وسائل الإعلام التي تعبر عن وجهة نظر النظام لخطاب الكراهية تصل إلى 27.4٪.
وبررت الدراسة ذلك بأن مركزية القرار ومدى توحد الخطاب الذي تتبناه وسائل الإعلام هما عاملان مهمان لتحديد مدى نسبة خطاب الكراهية.
وأضافت أن تلك الوسائل، سواء كانت حكومية أو خاصة، تتبع “لسلطة مركزية متمثلة بوزارة الإعلام ومن خلفها الأجهزة الأمنية، الأمر الذي يجعل سياستها التحريرية موحدة ومدروسة باتجاه ترويج الخطاب السياسي للنظام السوري”.
“في ظلّ العسكر”.. مستقبل كالحاضر
لا يرى الإعلامي والسيناريست حافظ قرقوط، فرقًا بين شكل العمل الإعلامي في أواخر القرن الماضي وبين واقعه الحالي، إذ “عمد نظام الأسد إلى ضبط إيقاع كل المؤسسات الحساسة وربطها بالقصر الجمهوري الذي أصبح يدير كل شيء في البلاد، بما في ذلك الإعلام على اعتبار أنه حساس بالنسبة لهذه الأنظمة ويصل إلى الشارع ويحركه، فكانت الخطة لضبط الإعلام بكل تفاصيله”.
ويربط قرقوط بين استلام الأمن إدارة مفاصل المجتمع، و”عدم وجود حالة إعلامية ناضجة في سوريا”، وهو ما تتضح آثاره بجلاء في المشهد الحالي الذي تتصدره أجهزة الأمن والحالة العسكرية الطاغية في البلاد.
إذ أدى “تدخل القوى الأمنية في الحالة الإعلامية إلى إضعاف طاقات وتهجير كوادر واعتقال وسجن آخرين”، بحسب قرقوط، الذي يرى أن تلك الكوادر الشبابية بمجرد خروجها من تحت سلطة النظام، بدأت بتقديم رسائل متقنة للعالم، ما يدل على أنّ “الخناق الأمني كان كابوسًا على جميع نواحي الحياة، وعلى قطاع الإعلام”.
ويتفق قرقوط في هذه النقطة مع الصحفي والحقوقي منصور العمري، الذي يؤكد أيضًا أن تخلص الإعلام من القبضة الأمنية لا شك أنه ليس من صالح النظام السوري.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إنّ أي مستقبل للإعلام السوري تحت عين النظام لا يمكن أن يكون مبشرًا، إذ لن تتاح لوسائل الإعلام أي هوامش حقيقية لحرية التعبير أو تطوير محتوى وشكل الرسائل الإعلامية، داخل قبضة أمنية.