المؤلف: محمد عابد الجابري
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية.
يحلل الجابري في هذا الكتاب، الذي يعتبر بمثابة المجلد الأول من أربعة مجلدات أطلق عليها مجتمعة تسمية نقد العقل العربي، النظم المعرفية التي كونت العقل العربي وحكمت نظرته للعالم والإنسان والخالق.
يبين الكاتب أن الإطار المرجعي للفكر العربي هو عصر التدوين، وهو العصر الذي بدأ فيه “تدوين العلم وتبويبه” في عام 143 هجري كما يقول الذهبي، حين بدأ تدوين الفقه وأصوله، وقواعد اللغة والنحو، والحديث النبوي وغيره.
ويعتقد الجابري أن عصر التدوين حدثت فيه إعادة بناء الموروث الثقافي بالشكل الذي يجعل منه تراثًا، أي إطارًا مرجعيًا لنظرة العربي للأشياء، إلى الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ.
ويلفت الكتاب النظر لمشكلات منهجية شابت عملية التدوين تلك، فهي بداية كانت متأثرة بالمعارك السياسية القائمة في تلك الفترة، كما أنها اعتمدت بعض القواعد المنهجية التي جعلتها غير قابلة للتطور.
فيقول الكاتب إن علماء النحو اتجهوا نحو البادية، إلى الأعراب الأقحاح، وأصبح هؤلاء الأعراب مطلوبين بكل إلحاح، وقد كان أهم شرط وضعه العلماء في من يصح أخذ اللغة عنه أن يكون خشنًا في جلده فصيحًا في لسانه.
وقد أصبح العلماء يعتبرونهم معصومين من الخطأ اللغوي، ليس بسبب إيمانهم بذلك، بل من أجل ألا ينسحب الخطأ إلى القواعد التي شيدوها انطلاقًا من نطقهم وكلامهم. وهو ما جمد اللغة العربية وحنطها، ولكن الحياة الاجتماعية لا تتجمد ولا تتحنط، لقد انتقمت لنفسها بفرض لهجات عامية كانت وما تزال أغنى كثيرًا من اللغة الفصحى.
ومن النحو إلى أصول الفقه، فالقواعد التي وضعها الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة للعقل العربي عن القواعد التي وضعها ديكارت للعقل الأوروبي.
يقول الشافعي: ليس لأحد أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، بمعنى أن الرأي يجب أن يكون قياسًا لا غير.
وقد أراد الشافعي بذلك حسم الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث من خلال وضع حد لتضخم الرأي والحديث معا في زمانه.
يتضح تمامًا أن الفقهاء نحوا منحىً نحويًا في تعاملهم مع القضايا الفقهية، كما أن النحاة تأثروا بلا شك بالفقهاء وبدورهم أثروا وتأثروا بعلماء الكلام والبلاغيين. وبإمكاننا الآن أن نؤكد أن الخطاب العربي في المجالات المعرفية، المذكورة على الأقل، يؤسسه فعل عقلي واحد، أي آلية ذهنية واحدة قوامها ربط فرع بأصل لمناسبة بينهما: القياس بتعبير النحاة والفقهاء، الاستدلال بالشاهد على الغائب بتعبير المتكلمين، والتشبيه بتعبير البلاغيين.
وقد أطلق الكاتب تسمية النظام المعرفي البياني على النظام المعرفي الذي حكم عمل الفقهاء والنحويين الأوائل.
ويميز الكاتب بين النظام المعرفي البياني والنظام المعرفي العرفاني، وهو النظام الذي تأثر بالثقافات السابقة على الإسلام في المناطق التي وصل لها في بلاد الشام وبلاد فارس مصر، وقد تأثر بالفكر المجوسي والمانوي، والهرمسي ( الصابئة) وغيرها، ويبين الكاتب أن الفرق الإسلامية التي تأثرت مباشرة بهذا النظام هم الشيعة والإسماعيلية والمتصوفة.
وبين النظام المعرفي البياني والعرفاني، يبين الكاتب أن هناك نظامًا معرفيًا ثالثًا تم تأسيسه في الفكر العربي، هو النظام المعرفي البرهاني الذي تأسس بجهود الفلاسفة الأوائل أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم.
وبعد أن يفرغ من شرح ملابسات نشأة النظم المعرفية الثلاثة (البياني، العرفاني، البرهاني) وتأثرها وتوظيفها المباشر في خدمة الصراع السياسي على السلطة في التاريخ الإسلامي، يتحدث الكاتب عما يسميه “أزمة الأسس في العقل العربي”، حيث تتصارع هذه النظم وتتنافس داخل العقل العربي منتجة عقلًا مشوهًا تحكمه التناقضات أحيانًا.
يعتبر كتاب الجابري الضخم عملًا تأسيسيًا عملاقًا لتحرير العقل العربي من قيوده وأغلاله، وإطلاقه في فضاء العلم لتحقيق النهضة العربية التي طال انتظارها.