جبهة واحدة ضد الاستبداد
محمد رشدي شربجي
يرافق الموت حين يغيّب شخصية عامة في سوريا جدل على وسائل التواصل الاجتماعي حول تراث الرجل ومحاسنه ومثالبه، وفي حالة بلد مستقطب أسال فيه البعث أنهارًا من الدماء يأخذ الجدال دائمًا بعدًا سياسيًا يستحضر فيه تاريخ المتوفى القريب والبعيد، وطبعًا دينه ومذهبه وموقفه المباشر وغير المباشر من الثورة السورية والنظام السوري وغيره.
في الأسبوع الماضي توفي المفكر الفيلسوف طيب تيزيني، وقد أثار موته بين الإسلاميين والعلمانيين ما أثار، وشخصيًا لم أقرأ للراحل أيًا من كتبه، وكل ما أعرفه عنه أنه شارك في أول اعتصامات الثورة السورية وصرح في أكثر من مرة بدعمها. ولكن لفت نظري في التعليقات أنه بنظر بعض الإسلاميين كان محسوبًا على نظام الأسد الأب بشكل من الأشكال.
يثير موت تيزيني سؤالًا متجددًا حول علاقة المثقف بالسلطة بشكل عام، وقد حرص نظام الأسد على أن يصب عمل المثقفين في صالحه حتى لو لم يكن مديحًا مباشرًا، ونذكر هنا على سبيل المثال الصراع الفكري بين محمد سعيد رمضان البوطي والعلماني نبيل فياض، وكيف عقدت بين الرجلين ندوات ومحاضرات وكتبت ومؤلفات، ثم حين قامت الثورة ترك الرجلان وظيفتهما السابقة وتفرغا للدفاع عن نظام الأسد.
منذ بداية الربيع العربي كان سؤال الأيديولوجيا حاضرًا في ذهن الثورة والأنظمة على حد سواء، وقد كان هذا السؤال مدخلًا مهمًا استغلته الأنظمة لتفريق الثوار بين علمانيين وإسلاميين، وكما هو معلوم فقد نجح هذا المسعى في كل بلدان الربيع العربي، اللهم عدا تونس التي لو لا وعي بعض نخبتها السياسية وإدراكها لخطورة المرحلة لدخلت هي الأخرى فيما دخل فيه الآخرون.
في مصر، درة تاج الربيع العربي وأهم دوله، تسابقت القوى السياسية للتحالف مع الجيش لتأمين حكم مستقر دائم، ومن ناحية المبدأ ليس في ذلك مشكلة إذا كانت الخطى نحو الجيش تمت بتوافق سياسي مدني، فالجيوش هي استثمارات دولية في بلادنا ولها تجذرات في مجالات الحياة العامة وإزالتها مرة واحدة من المشهد لن يأتي بخير، ولكن ما حدث أن القوى السياسية تحالفت مع الجيش ضد بعضها، وهو بدوره تلاعب بها حتى رماها معًا في السجن، والنتيجة هي ما نعرفه جميعًا، عشرات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والمشردين، ورئيس تستقبله دول العالم أجمع يسبح بحمده حزب النور السلفي وأحزاب علمانية كثيرة.
أما في سوريا فقد كان المسار الأكثر كارثية، فما بدا بداية انقسامًا بين إسلاميين وعلمانيين غدا انقسامًا بين الإسلاميين أنفسهم، ثم توالى الانقسام وكثر وتكاثر. ويبدو أن صدور الإسلاميين ضاقت بعلمانيين قليلين مدوا لهم يد التعاون فاختطفوهم في عتمة ليل كما حدث مع مختطفي دوما الأربعة (وائل ورزان وناظم وسميرة) أو الأب باولو وغيرهم كثيرين.
لا تبدو الأمور في الجزائر والسودان مبشرة بخير، يتمسك العسكر في كلا البلدين بالسلطة أكثر من أي وقت مضى، ويتلقون دعمًا ماليًا متزايدًا من رعاة الثورات المضادة وعلى رأسهم دولة الإمارات، التي أصبحت بين ليلة وضحاها صاحبة كلمة في الدول العربية من المحيط إلى الخليج. ويبقى الأمل في قوى الثورة هناك في أن تغلّب المصلحة العامة وأن تتعلم الدروس من الثورات قبلها، وإن كان يلحظ المرء بداية خطاب أيديولوجي للأسف خاصة في السودان.
منذ سنوات أخذت دولة الإمارات على عاتقها مهمة واحدة، وهي إعادة إحياء النظام العربي، من الجزائر إلى اليمن. ينفق ابن زايد سنويًا لإنقاذ أنظمة متهالكة مليارات من الدولارات كان من الممكن إنفاقها لمعالجة أسباب الثورات أساسًا بدلًا من تدعيم تلك الأنظمة.
وقد يبدو الأمر كصراع أيديولوجي يأتي في إطار الهوس الإماراتي بالإخوان المسلمين والحرب العبثية المفتوحة عليهم ودفعهم دفعًا بالقوة نحو التطرف والجنون، ولكنه في الحقيقة متجاوز لذلك، إذ ما الذي يفسر هذا السعي الإماراتي السعودي المحموم لإنقاذ نظام البشير الإسلامي، وفي نفس الوقت تدعم أبو ظبي والرياض في ليبيا حملة حفتر للقضاء على الإسلاميين؟ وما الذي يفسر تهافت النظام العربي وخاصة المخلوع البشير الإسلامي لإعادة العلاقات مع نظام الأسد العلماني؟
إنها حرب مفتوحة دولية من الأنظمة العربية ضد الشعوب العربية المتطلعة نحو الحرية والديمقراطية، والرد عليها لا يكون بنقاش سفسطائي عن العلمانية والشريعة والإسلام، بل بتغييب كل هذا حتى إنجاز تحوّل سالت دونه بحور من الدماء.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :