الطيب تيزيني والدولة الأمنية التي فككتنا

  • 2019/05/26
  • 12:00 ص

إبراهيم العلوش

تفكيك الدولة الأمنية كان من أهم شعارات المفكر الطيب تيزيني التي رفعها عاليًا، محذّرًا من الخراب الذي ستجره أجهزة المخابرات على السوريين، ولقد بكى سوريا قبل أن يموت في حمص وسط الخراب الذي تنبأ به وحذر منه!

رحل الطيب تيزيني، المفكر والأستاذ بكلية الفلسفة بجامعة دمشق، يوم السبت 18 من أيار 2019، عن عمر 85 عامًا، ولم يحضر دفنه أكثر من خمسين شخصًا، ليدفن في مقبرة شعبية تلائم مزاجه الشعبي، حتى وهو يلقي محاضراته الفلسفية، فشهرة الطيب تيزيني تأتي من اختلاطه بالناس، والذهاب إليهم عبر تجواله في كل أنحاء سوريا، وإلقائه مئات المحاضرات طوال أكثر من نصف قرن.

وعبر محاضراته ومقالاته كانت أفكاره تتقاطع مع الماركسية والقومية، ولكن الهمّ الاجتماعي كان حاضرًا في نقده وفي تنظيراته الأخيرة خاصةً، رغم الضياعات الفكرية الكثيرة المنصبّة على التنظير الأيديولوجي، والتكلف بليّ ذراع التاريخ وأحداثه ليتلاءم مع الأيديولوجيا، وهذا ما بالغ به الماركسيون والقوميون كثيرًا، وما يفعله الإسلاميون اليوم بشكل متعنت ورافض لتجنب الخطأ الذي وقع فيه الآخرون، بل إن ليّ ذراع التاريخ الإسلامي يأخذ اليوم أشكالًا عنيفة، تقترب من إرهاب داعش وحزب الله.

مشروع الطيب تيزيني الفكري الذي دونّه في عشرات الكتب والمقالات انحصر بين تجربتي المفكر اللبناني حسين مروة (1910-1987) صاحب كتاب (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية)، والمفكر المغربي محمد عابد الجابري صاحب كتاب (نقد العقل العربي)، ومن المعروف أن حسين مروة اغتيل مع السياسي والكاتب مهدي عامل في عام 1987، من أجل فتح الطريق لحزب الله بمعونة ودعم من دولة الملالي الإيرانية.

أما المفكر محمد عابد الجابري فقد أخذت أفكاره أبعادًا كبيرة في العالم العربي، ودخل الطيب تيزيني معه في نقاشات كثيرة، ولكنها لم تثمر تحولًا إيجابيًا لدى القراء، فالكيدية لا تثمر أفكارًا جديدة، ولا تطور واقعًا بائسًا، بل قد تثمر الكثير من الأسف.

ولعل هذا ما فعلته عصبية أستاذ الفلسفة الدكتور أحمد برقاوي، وهو يعزي بوفاة الطيب تيزيني، وكانت مفسدة لهيبة الموت ولجلاله، فالدكتور أحمد برقاوي نعى زميله بمزاج متبرم مقللًا من جهود الراحل في المجال الفلسفي وحتى في تصرفاته. وهذا التصرف يجب ألا يبرر لنا رجم أحمد برقاوي كما قال الكاتب خلدون النبواني في مقال له في موقع المدن اللبناني. وقد كان للإسلامي الدكتور عماد الدين الرشيد نفس الدور، وهو يؤنّب من ينعى الراحل بحجة أنه لم ينل صك الغفران من محتكري الدين والرحمة.

ويكفي الدكتور الطيب تيزيني فخرًا أنه رمى عنه تكبّر النخبة، وذهب بالفكر وبالفلسفة إلى عامة الناس، وفي مراكز المدن والمناطق السورية الصغيرة، ولم يتوانَ عن المشاركة العامة، وتجاوز مرض الأكاديميين المتمثل بالانكباب على الدراسات النظرية، وعلى تجاهل واقع الشعب واستبعاده من محاور دراساتهم المبنية على الترجمة وكتب التاريخ، واستهلاك محتوياتها باجترار لم يسفر أخيرًا إلا عن الحالة الصفريّة للكثير من أساتذة الجامعات والكتّاب السوريين الذين تقوقعوا بفوقيتهم، وبالاستهزاء بتخلف المجتمع والناس من حولهم، والذي انعكس جليًا في خطابات بشار الأسد الذي يكرر دائمًا أن الشعب السوري غير مؤهل للديمقراطية، مستمدًا قوله، بكل أسف، من أقوال الكثير من الكتاب والفنانين السوريين، وكذلك  من أقوال الكثير من المشايخ والشرعيين الذين اعتمدوا مقولات التخلف والردة والتكفير في مجاراةٍ للنظام، الذي اعتمد مقولة التخوين والعمالة للغرب وللصهيونية والمؤامرة الكونية.

الطيب تيزيني شارك بالاعتصام الأول للثورة أمام وزارة الداخلية في 16 من آذار 2011، للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، وتم توقيفه وإهانته من قبل أجهزة الأمن، وهو الأستاذ الكبير والرجل السبعيني حينها، وجاهر بموقفه في معاداة الدولة الأمنية أمام فاروق الشرع، نائب الأسد الأب والابن، وأمام نخب النظام المستخفة بما يريده الشارع السوري من حقوق المواطنة والحرية التي سلبتها الدولة الأمنية، ونادى جهارًا بضرورة تفكيك الدولة الأمنية، ودولة الفساد، مرددًا “في العالم يوجد فساد في الدولة، أما في سوريا فتوجد دولة فساد”.

وفاة المفكر الطيب تيزيني شدّت من أزر السوريين، ووحدت الكثير من أطيافهم خارج التصنيف الطائفي أو العرقي، ليجتمعوا على نعي شخصية سورية أحبت السوريين بكل ما فيهم من ميزات ومن عيوب، ولم تلجأ إلى الأسلحة الثقيلة المتمثلة بتهم التخلف والتخوين والتكفير، كما يستسهل الكثيرون ذلك.

لقد آمن الطيب تيزيني بالسوريين، وارتكب الكثير من الأخطاء التي ارتكبها السوريون، مثل انضمامه الى حزب البعث، وغرقه في ليّ ذراع التاريخ من أجل الأيديولوجيا القومية- الماركسية، ولكنه استشعر ولو متأخرًا حجم الخراب القادم على سوريا نتيجة تراكم تجاوزات الأنظمة العسكرية، والنخب الطائفية، وحذر من القادم قبل أن يحل هذا الخراب الذي مات في وسطه باكيًا على سوريا، وعلى أهلها كما قالت ابنته منار تيزيني، التي رافقته في لحظاته الأخيرة.

رحم الله الطيب تيزيني الذي أحب سوريا، وأحب السوريين، وكان صوفيًا في وداعته وطيب ملقاه، ولا يجب أن نجعل من وفاته مناسبة لرجم بعضنا كما عودتنا الدولة الأمنية التي فككتنا، بل يجب أن نجعل منها مناسبة لتجمع طلاب الحرية، وللفخر بمفكر قضى نحبه وهو يحلم بسوريا الحرة!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي