داريا.. المدينة المسالمة، التي أبت إلًا أن تكون ثورتها سلمية، واستقبلت منذ بداية الثورة العنف والقمع بالورود، ردّ عليها النظام السوري بسلسلة مجازر كانت الأعنف منذ انطلاقة الثورة، خلّفت أكثر من 700 شهيد و1000 جريح و100 معتقل وحوالي 100مفقود، والأعداد قابلة للزيادة في ظل حصار أمني خانق.
انسحبت قوات الجيش والأمن خلال الأشهر الماضية بشكل كامل من داريا إثر العمليات النوعية التي نفذها الجيش الحر باستهدافه للمواكب الأمنية التي كانت تسيطر على شوارع المدينة، وتمركزت القوات عوضًا عن ذلك على المداخل الرئيسية للمدينة واتبعت سياسة القصف من الخارج بقذائف الهاون والمدفعية بدلًا من المواجهة المباشرة مع عناصر الجيش الحر.
لكن الأسابيع الأخيرة (التي سبقت المجزرة الكبرى) شهدت تهدئة مريبة من قبل قوات النظام وانخفاضًا ملحوظًا بعدد قذائف الهاون، التي كانت تسقط بشكل يومي على وسط وأطراف المدينة، الأمر الذي أدى إلى تجمع كتائب الجيش الحر التابعة لداريا والمناطق المحيطة بها داخل المدينة وسيطرتها الكاملة على شوارعها وأحيائها وبدء تنظيمها للحالة الأمنية فيها، في ظل غياب قوى الأمن الداخلي بشكل كلي، كإحداث جهاز للشرطة تابع للجيش الحر لضمان الأمن، كما شهدت المدينة عودة الثوار إلى نشاطاتهم السلمية المتمثلة في المظاهرات اليومية وحملات التنظيف وإعادة الإعمار وتنظيم مجالس العزاء وغيرها. لكن يبدو أن النظام لم يكن غافلًا عن كل ذلك وأن شيئًا ما كان يحيكه خلف سواتر مطار المزة العسكري.
بدأت الحملة يوم الإثنين 20 آب 2012 (ثاني أيام عيد الفطر) عندما فوجئ أهالي داريا بانقطاع التيار الكهربائي والاتصالات الخلوية والأرضية عن المدينة بشكل كامل، تبع ذلك سقوط عشرات قذائف الهاون على منطقة «فشوخ»، الفاصلة بين داريا ومعضمية الشام من جهة الغرب، الأمر الذي دفع الكثير من أهالي منطقة فشوخ للنزوح إلى وسط المدينة، كما قام الجيش الحر بالرد (لأول مرة) بقصف قذيفتي هاون على مطار المزة العسكري، قيل أن إحداها سقطت في مساكن السومرية التابعة لقوات النظام.
الثلاثاء 21 آب 2012
أغلقت قوات النظام جميع منافذ داريا (الرئيسية والفرعية بما فيها الطرق الترابية والزراعية) من جميع الجهات بالسواتر الترابية والحواجز الأمنية والعسكرية، وبدأت بحشد أعداد غفيرة من عناصر الحرس الجمهوري ونشرت حوالي 30 دبابة على اوتستراد درعا وعند جسر صحنايا وجامع الوهاب، كما نشرت عددًا من الدبابات وعناصر الجيش النظامي في منطقة اللّوان وكفرسوسة والقدم، في محاولة لعزل المدينة من جميع الجهات ومنع خروج المدنيين منها وحجب المساعدات الطبية والإنسانية عنها، تزامن ذلك مع سقوط عدة قذائف على المدينة محدثة بعض الأضرار المادية.
في مقابل ذلك نشر الجيش الحر عناصره في كامل المدنية وتمركز قبالة المداخل الشرقية (طريق دمشق وطريق المعامل والكورنيش القديم والجديد)، وصد محاولة تسلل لقوات النظام من جهة الكورنيش الجديد عبر ساتر مطار المزة، وجرت بينه وبين قوات النظام معارك سقط خلالها عشرات الشهداء وتكبد النظام فيها خسائر بالعدة والعتاد.
الأربعاء 22 آب 2012
الساعة السابعة صباحًا، استيقظ أهالي داريا على أصوات قصف عنيف لم تشهد له مثيل، بقذائف الهاون وصواريخ المروحيات وقذائف الدبابات، مستهدفًا وسط المدينة ومنطقة الكورنيش القديم والكورنيش الجديد بمعدل قذيفة كل ثلاث دقائق، ما أسفر عن سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى امتلأت المشافي الميدانية بهم وسط نقص حاد في الكادر الطبي والمستلزمات الطبية والإسعافية، ناهيك عن الدمار الذي طال المنازل والمحال التجارية والسيارات.
الخميس 23 آب 2012
لم يستطع أهالي داريا النوم ليل الأربعاء بسبب أصوات الرصاص المتواصل والقصف المستمر، جراء المعارك الدائرة بين الجيش الحر وقوات النظام على مداخل المدينة الشرقية، واستمر القصف لليوم الثاني على التوالي مستهدفًا الشوارع والأحياء بشكل عشوائي، الأمر الذي أنهك المدينة وأدى إلى انتشار الجرحى وجثث الشهداء في الشوارع دون القدرة على الوصول إليها.
الجمعة 24 آب 2012 – الساعة 10 صباحًا
تسللت قوات تابعة للمخابرات الجوية مدعمة بالدبابات من جهة ساتر مطار المزة العسكري تحت غطاء جوي من المروحيات الحربية واستمرار القصف الصاروخي على وسط المدينة والجهة الغربية، وبدأت بتمشيط منطقة الخليج الزراعي عن طريق مداهمة منازل المدنيين، واعتقلت عشرات الشباب من منازلهم.
مع تقدم قوات النظام في منطقة الخليج (شمال شرق داريا) نحو وسط المدينة تقدمت كتائب الجيش الحر لصد الهجوم، فجرت معارك “طاحنة” بين الطرفين تكبدت فيها قوات النظام خسائر كبيرة، دفعتها إلى زيادة وتيرة العنف والاستمرار بدك المدينة بالصواريخ ومدافع الهاون والدبابات من أكثر من جهة، فطالت عددًا كبيرًا من البيوت والمرافق العامة والخاصة في المدينة، ما أوقع المئات بين شهيد وجريح، معظمهم من المدنيين، الأمر الذي أفقد الجيش الحر قدرته على حماية المدنيين والصمود، ودفعه إلى الانسحاب التكتيكي من المدينة.
الجمعة 24 آب 2012 –الساعة 3 ظهرًا
بعد انسحاب الجيش الحر دخلت قوات النظام داريا بأعداد كبيرة وقامت بعمليات التمشيط والتفتيش ابتداءً بالمنطقة الشرقية مرورًا بوسط المدينة باتجاه الغرب، واتبعت قوات النظام سياسة الأرض المحروقة في المناطق الممشطة، فأحرقت منازل ومحال تجارية وعددًا من السيارات، كما نشرت القناصة على الأبنية المرتفعة وقامت باستهداف المارة موقعة العديد من الشهداء.
السبت والأحد 25 و 26 آب 2012
استمر التمشيط خلال يومي السبت والأحد 25 و 26 آب 2012 ليشمل معظم منازل المدنيين في المدينة، وترافق ذلك مع ارتكاب عدد من المجازر بحق المدنيين الذين التجأوا إلى الأقبية هربًا من القصف، كما نفذت قوات النظام إعدامات ميدانية جماعية شملت عائلات بأكملها، كعائلة السقا وقفاعة والون، كما قامت بالتنكيل بالجثث وإهانة المدنيين، ووردت أنباء غير مؤكدة عن قيام شبيحة النظام باغتصاب بعض الفتيات.
الإثنين 27 آب 2012
تراجعت قوات النظام إلى أطراف المدينة وأحكمت القبضة عليها بعد إبقائها على وحدة أمنية تمركزت وسط المدينة عند مخفر داريا بعد أن قتلت رئيس المخفر وجميع عناصره بتهمة “الخيانة” و”الانحياز للإرهابيين”.
خلفت الحملة العسكرية على مدينة داريا ما لا يقل عن 700 شهيد، تم توثيق معظمهم، ومئات من الجرحى تم تهريبهم إلى أماكن مختلفة بعد أن اقتحمت قوات الأمن المشافي الميدانية في المدينة وقامت بحرقها وحرق مستودعات الأدوية واللوازم الطيبة التابعة لها، كما فُقد أثناء الحملة حوالي 100 شخص واعتقل العشرات، بالإضافة إلى نزوح عشرات الآلاف من المدنيين إلى المناطق المجاورة.