رحل عدو السوريين!

  • 2019/05/14
  • 11:33 ص

عمر قدور

عمر قدور – المدن

في خريف عام 2007 كنا في زيارة مجاملة لأحد الأصدقاء الكتّاب، ونحن نغادر استوقفنا ليهديني كتاباً من تأليفه. أخذت الكتاب شاكراً، ثم وأنا أتصفحه في الطريق وجدته قد كتب لي إهداء غريباً جداً؛ كان في الإهداء يوبّخني لأنني مخدوع بزعامات مثل جنبلاط وجعجع وصفير! في ذلك الوقت لم تكن ذيول اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد انتهت، وبعيداً عن غرابة إملاء موقف سياسي من خلال إهداء كتاب كانت كفة الجدل السوري الداخلي حول انتفاضة الاستقلال تميل لصالح المتشككين فيها، والذين يتبنّون بشكل أو آخر رواية إعلام الأسد.

قبل ذلك بسنوات، وقبل انتفاضة الاستقلال، كانت جريدة “الدومري” الساخرة قد أفردت عدة زوايا في أعدادها مخصصة للسخرية من البطريرك نصرالله صفير على نحو مبتذل، بسبب رعاية البطريرك الراحل لقاء قرنة شهوان. جريدة الدومري أسسها فنان الكاريكاتير المشهور علي فرزات، ورغم ما رافق تأسيسها من إشاعة أجواء عن انفتاح بشار الأسد، ورغم ما كان يُشاع عن علاقة شخصية طيبة بين فرزات وبشار، إلا أنها أُغلقت بعد مضي ثلاث سنوات، وربما كان من الخير لنا أنها لم تواكب حدث اغتيال الرئيس الحريري وما تلاه لئلا تغرق في وحوله.

يُذكر أيضاً أن سلطة الأسد قد استنفرت عدتها الإعلامية كاملة لشدّ عصب السوريين إزاء انتفاضة الاستقلال، وبدأت التشديد على وطنية سورية غريبة عن خطاب البعث التقليدي بشعارات من نوع “أنا سوري يا نيالي”. بما لا يخرج عن مألوف الحالة السورية، انخرط كتّاب وفنّانون في البروباغندا القائمة آنذاك. إحدى مسرحيات محمد الماغوط تم شراؤها منه وتحويلها إلى عرض مبتذل مهمته شتم زعامات الانتفاضة اللبنانية وصمت صاحبها راضياً، الأديب المشهور زكريا تامر راح ينشر في “جريدة الثورة” المحلية هجاء وسخرية مبتذلين من زعماء الانتفاضة، بمستوى لا يليق بشخصه أو بما كان يُعرف عن سويته الأدبية.

إجمالاً كانت الأجواء مواتية جداً لما يريده بشار الأسد، القلة من السوريين الذين عارضوا حكمه، وفي ما بعد اتخذوا موقفاً مناصراً لانتفاضة اللبنانيين كان يُنظر إليهم باستهجان. دعاية الأسد، قبل اغتيال الرئيس الحريري، قد بادرت إلى وصفهم بالحاقدين، مع إشاعة أن هؤلاء معتقلون سابقون في عهد الأسد الأب يسعون إلى انتقامهم الشخصي، وحينها نشر الكاتب بكر صدقي مقالاً بعنوان “نعم، أنا حاقد”، يشرح فيه مسوّغات الحقد الذي أصبح تهمة للضحية بدل محاكمة الجلاد. ضمن تلك الأجواء كان الشخص اللبناني الأكثر شعبية بلا منازع هو زعيم حزب الله، وهذا مدخل كافٍ لاعتبار انتفاضة الاستقلال مؤامرة على المقاومة، وإذا لم يُقل الكلام بصيغته الحرفية كما يبثه إعلام الأسد فقد كان يُقال بصيغة التشكك أو التحذير من انتقال لبنان من وصاية إلى أخرى، ما يضمر اعتبار وصاية الأسد أهون من غيرها، وما يضمر اعتبار أصحاب الكلام أنفسهم أوصياء على إرادة شعب آخر له الحق على الأقل في اختيار الوصاية التي تروق له!

في المقابل من شعبية حسن نصرالله، شخصان كان يحظيان بنصيب أوفر من السلبية في أوساط السوريين هما البطريرك نصرالله صفير وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع. هذا التطابق بالمواقف بين الشريحة الغالبة من السوريين وسلطة الأسد يبدو مفاجئاً حقاً إذا أخذنا في الحسبان ما يعرفه السوريون عنها، وما يتداولونه سراً عن انتهاكاتها، بما في ذلك تسلط مخابراتها وقواتها في لبنان، وأيضاً عمليات سرقة الممتلكات “التعفيش بالتعبير الشائع اليوم” التي كان اللبنانيون أول من جرّبه من تلك القوات.

لقد وُصم سمير جعجع بالعمالة لإسرائيل، وهي تهمة تخففَ منها إيلي حبيقة في الوجدان السوري العام بعد ولائه للأسد، رغم ما كان معروفاً عنه كـ”بطل” لمجازر صبرا وشاتيلا الأولى، ورغم أن تلك المجازر التي حدثت بإشراف شارون لم تكن سوى نسخة عن المجزرة الأقدم “تل الزعتر” بإشراف قوات الأسد. حتى أرقام الضحايا تكاد تكون متطابقة بين المجزرتين، وأيضاً تكاد تكون متطابقة مع ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1985 ضمن ما عُرف بحرب المخيمات على أيدي الميليشيات اللبنانية الموالية للأسد. أما البطريرك الراحل، وقد عزّ إيجاد تهمة له، فكان النيل منه يأتي دائماً عبر القول بأن سمير جعجع “عميل إسرائيل” هو الابن المدلل له، مع التركيز على مكانته الدينية التي يُفترض بها أن تبعده عن السياسة، وكأن الحديث لا يخص بلداً قائماً أصلاً على المحاصصة الطائفية!

من سخريات القدر أن غالبية المثقفين العرب، وكذلك قسم من الشعوب العربية، الذين وقفوا ضد الثورة السورية برروا مواقفهم بالحرص على المقاومة ضد إسرائيل، أي بالذريعة ذاتها التي برر فيها سوريون لأنفسهم معاداة انتفاضة الاستقلال اللبنانية. من المؤكد أن القدر لم يكن يتهيأ للانتقام من السوريين، وأن أكثر ما يدل عليه هذا التكرار هو تدني الحساسية العامة إزاء قضية الحرية، خاصة عندما يتعلق الأمر بحرية الآخرين. من الجذر نفسه كنا قد عايشنا التأييد الذي حظي به صدام حسين لغزوه الكويت، بعد طول صمت وتجاهل لمذابح ارتكبتها قواته داخلياً، كمجزرة الكيماوي في حلبجة ومجزرة الأنفال على سبيل المثال لا أكثر.

لعل حساسية السوريين قبل الثورة إزاء قضية الحرية، وحساسية شعوب أخرى المتدنية الآن إزاء قضية السوريين وفي مقدّمها عداء قسم معتبر من اللبنانيين للثورة السورية، تشرح جميعاً الوعي المشترك البائس. لذا لم يكن مفاجئاً سوى لأصحاب ذلك الوعي أن من وقفوا مع حرية السوريين من اللبنانيين هم الذين كانوا أكثر مبدئية بموقفهم من وصاية الأسد على لبنان “سمير جعجع مثالاً”، والجزء الأهم من الصراع اللبناني الآن هو في محاصرة وتطويع أولئك الاستقلاليين ومعاقبتهم على مواقفهم الداعمة للثورة السورية.

في عودة إلى الاستهلال، صديقي الذي وبّخني في إهدائه قام بمراجعة العديد من قناعاته السابقة، والفنان علي فرزات والأديب زكريا تامر وقفا أيضاً بلا لبس مع الثورة السورية، أما رحيل الماغوط قبل الثورة فيسمح لنا بالتكهن أن حساسيته لم تكن لتجعل موقفه مضاداً للثورة على غرار أدونيس. لا يندر في صف جمهور الثورة أن يطلّ الوعي القديم من هنا أو هناك، كأن يرى البعضُ اللبنانيين مستحقين ما كان يفعله رستم غزالي أو غازي كنعان، وهذه الأصوات تظهر لمناسبة ما يدليه حلفاء الأسد من عنصرية إزاء اللاجئين السوريين، المهمة التي تتولاها تصريحات متكررة للوزير جبران باسيل.

رحل عدو السوريين سابقاً، البطريرك مار نصرالله صفير، ورأينا بعض السوريين يستدركون الماضي بمشاطرة قسم من اللبنانيين ترحمهم على الراحل وما كان يرمز إليه. من المؤسف أن الراحل الكبير لم يشهد استقلال لبنان ولا استقلال سوريا، بل شهد تغوّل القوى المناهضة لاستقلالهما، ومن المؤسف أن أحداً لم يستفد من الدرس الراقي الذي قدّمه عن رجل الدين عندما يلامس السياسة، فاكتظت الساحة برجال دين على مثال السلطة بكل مساوئها.

مقالات متعلقة

صحافة عربية

المزيد من صحافة عربية