حدثيهم عن قصتي..

  • 2015/03/29
  • 1:15 م

كان الجو ماطرًا حينما توجهنا كفريق إعلامي … دخلنا في أزقة ضيقة وحارات عتيقة وبيوت قديمة وكأنما دخلنا من بوابة الزمان إلى مدينة أخرى أو إلى زمان آخر وسط مقاطعة أورفا التركية العريقة، وأمام بوابة أحد البيوت المكشوفة القديمة توقفنا نستأذن بالدخول، وما إن أذن لنا ودخلنا حتى عصف بنا شعور من الصمت والخيبة…

باحة المنزل فائضة بمياه اﻷمطار وفي غرفة كئيبة معتمة تجلس فتاة في ربيعها الثامن عشر على فراش أرضي تبدو وكأنها مريضة وإلى جوارها فتاتان تبدوان أختاها يلبيان طلباتها، بينما كانت اﻷم تسعى للحصول على معونة ﻷبنائها وكبرى بناتها تعمل لتسد رمق عيش أهلها وطفليها ساعية وراء ما يبقيهم في الحياة.

جلست أنتظر عودة والدتهم، كانت رهام ترمقني بنظرات ريبة، بينما أنا أسألها إن كان هناك من مانع بأن أجري معها لقاءً إنسانيًا لعل هناك من أحد في العالم يدري بحالهم فيمد لهم يد المساعدة.

وكرد كنت أتوقعه أجابت بحدة «لا لا أسمح لا أسمح بأن يأتي أحد ليصورني قد طلب كثيرون لكني رفضت»، نعم هذه حريتك الشخصية ولديك كامل القرار في أن تقبلي أو لا، طيب هل من مانع بإجراء مقابلة إذاعية فقط، «لا ليس من مانع».

وأبدت ارتياحها عندها وحدثتني كيف تهدم بيتهم ففروا نازحين إلى مناطق سيطرة النظام في دير الزور، إذ إنها آمنة نسبيًا، فالمناطق الخاضعة للمعارضة تتعرض لشتى أنواع القصف من قوات اﻷسد، لكن حتى في مناطق سيطرة النظام لم تسلم رهام، فاستهدفها قناص بطلقة استقرت في رقبتها أدت إلى شلل في اﻷطراف السفلية.

وأردفت وعينها تدمع «خرج أهلي بي إلى تركيا للعلاج لكن حتى في تركيا أخبرنا اﻷطباء ما من أمل، إذا ما تم تسفيري إلى ألمانيا أو فرنسا»، هل من أحد قدم لك المساعدة وغطى لك تكاليف العلاج وتكفل بسفرك وتوعد «لا لا أحد، كلهم سارقون كاذبون، أتى أكثر من شخص وملأ قرص المعلومات لديه عن حالتي لكنهم كانوا يخلفون، باتت قصتي تجارة لديهم»، شعرت باستحقار لأدوات اﻹعلام التي بين يدي، إذ غدت في يد البعض آلة للمقامرة بدمع وألم الناس.

هنا دخلت اﻷم وسلمت علي، عرفتها بنفسي وبمهمة الفريق كذلك هي، ما إن أنهيت كلامي حتى قالت بلغة يملؤها انزعاج «أوافق أن تجري معي مقابلة فقط أنا، لكن ابنتي لا، هل صورتِ ابنتي؟»، لا يا خالة لم أصورها وهي لم توافق في اﻷساس، «اسمعي يا خالة قصتي سأحدثك عنها: اعتقل زوجي واستشهد ابني وفقد زوج ابنتي  وتهدم بيتنا، وأصيبت ابنتي إصابة جعلتها عاجزة عن المشي وعانينا مرارة النزوج، مرت علينا أيام حصار عصيبة، إذ كنا نبقى أيامًا وأسابيع دون أن تدخل إلينا ربطة الخبز، قطعت عنا أدنى مقومات المعيشة، لا كهرباء ولا ماء ولا دفء، أيام عصيبة يا ابنتي، مأوىً لا يق حر صيف ولا برد شتاء، بيت يضيق بنا ولا يتسع، اختنقنا وضاقت بنا الحياة قررنا اللجوء إلى تركيا من أجل ابنتي المسكينة”.

“هنا يا خالة أناس طيبون ولم يتعرض لنا أهل البلد بأي أذى، لكن أهل ديرتي أهل بلدي هم من طعنوا بنا وخانونا هم من يتعرضون لنا بشتى اﻹهانات والوضاعة، جعلوا من مأساتي بنكًا يدر عليهم باﻷرباح، كم وكم أتو وسجلوا عن حالتي ثم لم يعودا ولم أعد أراهم، نعم حتى الدمعة التي تسقط من عيني أترينها، كانوا يرون بها إدرارًا للمال سجلي كلامي وانشريه، صوريني وأنا أقول فلانًا وفلانًا هم من غدروا بي، أولهم الأقارب وآخرهم  اﻷباعد، انشريه للعالم، دعي أمرهم ينفضح حتى تنتهي لعبة مكرهم وخداعهم”.

وتردف “ما ذنبها ابنتي، صبية مثل الوردة أن تبقى عاجزة ولا أحد يأبه بحالها، والله إني أتظاهر بالقوة من أجلها لكن بعيدًا أذهب إلى الحديقة ﻷلتقي بأناس أشكي همي لهم وأبكي بعيدًا عن ناظريها، لئلا تنهار وتضعف، إنني أناشد العالم العربي واﻹسلامي، العالم أجمع بأن يمد لي يد العون لإنقاذ ابنتي من الشلل والتكفل بعلاجها، والله نحن لا حيلة بيدنا ولا حيلة من أمرنا، كما ترين ابنتي، زوجة المفقود أم لهذين الطفلين، تعمل ليل نهار من أجل سداد إيجار البيت 450 ليرة تركية، عدا عن فاتورة الماء والكهرباء والغاز والمتطلبات والاحتياجات اليومية”.

“أحن إلى قبر ابني الشهيد  أشتاق ﻷن آتيه بالورود وأسقيه بالماء… أتمنى أن تعود ابنتي للمشي على قدميها، أتمنى أن أرى ذاك اليوم ورهام عادت كما كانت»، وحشرج صدرها بالبكاء وانهارت باكية، اختنقت الكلمات والعبرات وسكت الكلام، نظرت إلى ما حولي كل ما حولي بدا كئيبًا، حتى حفيدها وهو يلهو لم تعد صورته كما رأيته أول مجيئي، انتبهت لثيابه الرقيقة، لجواربه المثقوبة، لبرودة المكان والحزن المخيم وعفونته ورائحته، للكرسي المتحرك، للغرفة الفارغة من أي أثاث تلهو بها الريح، للمدفأة المطفأة.

احترت ما يمكنني أن أفعل، أن أقدم، إذ بات على عاتقي حملًا كبيرًا في أن أوصل معاناتهم، بحثت في جيب حقيبتي كان فارغًا إلا من كومة من  اﻷوراق وقطعة ورقية وأخرى نقدية، ناديت لمحمد الصغير أهديته إياها، أخذها بعد عناء، لكنه سر بها ثم رماها أرضًا، لم يكن ليعلم ما تعني، ومضى فرحًا بالقطعة النقدية ليشتري بها، هنا عاد الوفد اﻹعلامي ليسمعوا احتياجات العائلة ومتطلباتها، وودعناهم على أمل الفرج القريب ومضينا، إلا أنني تركت بينهم قلبًا لا يبرح يدعوا لهم ويهمس بينهم بأنا لن ننساكم.

 

مقالات متعلقة

قراء

المزيد من قراء