إبراهيم العلوش
في القرن التاسع عشر بدأت الحركة العمالية تطالب بحقوقها في أوروبا وأمريكا، وأضحت حركة عالمية منذ اعتماد الأول من أيار من كل سنة عيدًا للعمال في عام 1904. وفي سوريا تأسست نقابات العمال منذ الاستقلال، ولكن استولى عليها البعث منذ العام 1963، ووظفها كقوى سلطوية، وللتجسس على منتسبيها، وفرّغها لوظيفة الهتاف بحياة “السيد الرئيس” والصياح بالشعارات الرنانة.
واليوم ها هي الميليشيات الإيرانية تصيح بالعمال والشباب، يا عمال سوريا انضموا إلى ميليشيات الدفاع الوطني. والقوات الروسية تصيح بهم، يا عمال سوريا انضموا إلى الفيلق الخامس..
لقد تشرذمت القوى العمالية السورية وتفرقت تتناهشها الجيوش والتنظيمات والطوائف والمصالح الدولية المتحاربة في سوريا، وتدمرت ساحة الإنتاج والعمل أمثال منطقة الشيخ نجار بحلب، وحسيا بحمص، وعدرا بدمشق والكثير غيرها، وصار اقتصاد الحرب وتجار الحرب هم الملاذ الأخير للعمال لكسب قوتهم في هذه الفوضى العارمة التي تعصف بالبلاد.
وفي مخيمات اللاجئين في الداخل السوري صارت اليد العاملة أسيرة البطالة وانتظار وقف الحرب، وتولتها المنظمات الإنسانية الدولية التي تقدم لها ما يسد الرمق، في حين تتلاعب الدول الداعمة بالميزات وبالرواتب لمن يلتحق بجيوشها أو بميليشياتها التي تديم الحرب والخراب في سوريا.
أما خارج سوريا فإن العمالة السورية، وخاصة من الشباب، تخضع لأقسى الشروط والابتزاز، فيعمل الشباب في تركيا اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وبأقل من نصف الأجر المعتمد، وفي لبنان فإن العمل يخضع للإذلال بالإضافة إلى الابتزاز العلني والحكومي اللبناني، مع رفع عصا إعادة اللاجئين إلى أقبية المخابرات السورية. وأما في الأردن فالحال لا يزيد كثيرًا على الحال في لبنان.
لقد تم تقسيم السوريين إلى طوائف وولاءات، ولم يعد أحد يتعامل مع السوري إلا حسب تصنيفه الطائفي أو المناطقي أو العرقي، لقد تفتت الطبقة العاملة السورية وتناثرت في هذا الهباء والعدم الذي تنثره الصواريخ.
ورغم اتهامات النظام والمؤيدين للمهجّرين بالخيانة والعمالة، فإن تحويلاتهم لمن تبقى من أهاليهم في الداخل تعتبر ركيزة أساسية لاقتصاد الداخل السوري، بالإضافة إلى أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي تلمُّ بسوريّي الداخل أسهمت بإعادة بعض الاعتراف بسوريّي الخارج وأهميتهم في إعادة الحياة ودورة الاقتصاد المفقودة، لأول مرة، وذلك بعد انحسار الدعم من قبل المحتلين الروس والإيرانيين لمناطق سيطرة النظام، ولم تعد التصنيفات الطائفية وتصنيفات الولاء والمعارضة هي الوحيدة التي تصنف السوريين بين بعضهم، فمناطق النظام التي حصلت على النصر المزعوم، نالها الإفلاس وانهيار الاقتصاد ونفاد الوقود، فمحركات الاقتصاد التي من أهمها اليد العاملة الفنية والخبيرة تمت التضحية بها من قبل النظام عبر التهجير والتدمير والتصنيفات الطائفية.
لا يزال العالم يحتفل بعيد العمال العالمي في الأول من أيار كل سنة، وتخرج المسيرات والمظاهرات في كل مكان تحتفل وتطالب بالمزيد من الحقوق، وهذا لا يشمل العامل السوري الذي يعمل في ورشات الدول المجاورة كعبد، من أجل أن ينقذ أهله وأبناءه من التشرد والموت، ولا يشمل أيضًا العامل في داخل سوريا الذي تبحث عنه الميليشيات والفيالق والجيوش التي تصب المزيد من الزيت على نار الحرب المشتعلة، وكل جهة ترفع رواتبها أكثر أمام المحتاجين للقمة الخبز من السوريين، من أجل أن يلتحقوا بها، وليموتوا بعد أول معركة، أو بعد عاشر معركة، أو من أجل أن يقتلوا أقرانهم من السوريين في الميليشيات والجيوش المقابلة، والذين التحقوا أيضًا وهم يحلمون بأن يعودوا سالمين إلى أهاليهم، وليس من أجل أن يموتوا!
وفي المهاجر البعيدة يمسك تعلم اللغة برقاب السوريين ويصارعون من أجل أن يتمكنوا من العمل، ومن فهم العالم الجديد من حولهم، وفهم طرق العمل فيه والتفاعل معه، ولكن جبل اللغة عال، وليس من السهل اجتيازه، وخاصة على من تأخر العمر به.
الأربعاء الماضي الأول من أيار، وفي باريس وحدها حدثت أكثر من خمس وثلاثين مظاهرة عمالية.. حيث تمر المظاهرة العمالية وهي تحمل ورود النرجس البيضاء ذات القلوب الصفراء، كما هو متعارف عليه هنا في فرنسا.. ونخرج نحن اللاجئين لمشاهدة العمال وهم يصخبون، ويطالبون بالمزيد من الحقوق، بينما نشعر بالحزن أمام صخبهم، فنحن العاطلين عن العمل لا نستطيع المشاركة بعيد العمال، نحن لا نزال ننتظر قبولنا في أي عمل بعد أن فقدنا أعمالنا الأصلية، وننتظر من يتحمل ركاكة لغتنا، وعدم قدرتنا على التفاعل مع كل ما حولنا.
مع نظام الأسد انهارت أحلام السوريين بالالتحاق بالعصر وبتنمية منظمات عمالية وحقوقية فعّالة وذات مصداقية، فقبل أكثر من مئة وخمسين عامًا انطلق شعار “يا عمال العالم اتحدوا” ولكنه وصل إلى سوريا اليوم مشرذمًا ومنخورًا وتحول إلى شعار: يا عمّال الطوائف اتحدوا!