من ذاكرة الرحيبة… أعياد شعبية غيبها الزمن
عنب بلدي – حباء شحادة
يذكر أهالي مدينة الرحيبة، في القلمون الشرقي شمال دمشق، احتفالات قديمة كانت تجمعهم في أوقات مختلفة من السنة، يمارسون فيها عادات وتقاليد لا يدرون لها أصلًا ولكنهم قدموا لها معاني متعددة من وحي ثقافتهم الزراعية الريفية.
كانت أراضي الرحيبة خصبة وفيها وفرة من الماء والأشجار، ومن الآثار المتوزعة في أنحائها يبدو جليًا أنها كانت مأهولة منذ القدم، ولكنها لم تلقَ الدراسة والعناية لكشف تاريخها بشكل دقيق.
ترتبط احتفالاتها بمواسم الرياح وبدء الربيع ودفء الأجواء، لكنها تتزامن أيضًا مع العديد من الاحتفالات المسيحية التي تقيمها إلى الآن المجتمعات القريبة في المنطقة.
ومع تعاقب حضارات، مثل السومريين والأكاديين والكلدان والكنعانيين والآراميين والحيثيين والبابليين والفرس والإغريق والرومان والنبطيين والبيزنطيين، على سوريا، تبقى هوية منشئي تلك الاحتفالات مبهمة.
الخمسان
ينسب اسمها لأيام الخميس التي تقام بها، وهي سبعة متتالية بين آذار ونيسان، لكل منها اسم وتقاليد خاصة، بعضها زال قبل بعضها الآخر، الذي بقي له حتى الآن أثر ضعيف.
خميس الضايع، وخميس الشعنونة، وخميس المجنونة، وخميس القطط، وخميس النبات، وخميس الحلاوة أو الأموات، وخميس البيض. تترافق هذه الخمسان مع الصوم المسيحي الذي ينتهي بعيد الفصح، وتشابه تقاليدها الكثير من التقاليد المسيحية.
“هوا الخمسان بشلخ القمصان”، هي مقولة شائعة في المدينة، حسبما قال عبد الوهاب موسى، وهو موظف متقاعد من أهالي المنطقة، لعنب بلدي، مشيرًا إلى ارتباط تلك الأعياد بفترة هبوب الرياح الشديدة.
وتحدث عبد الوهاب عن ذكرياته، وقال إن ما يميز خميس البيض، عدا عن سلق البيض مع قشور البصل لتلوينه، هو “المكاسرة” التي كان يقوم بها الصبية، متبارين على مضاربة البيض، ومن يتمكن من كسر قشرة البيضة التي يحملها الخصم يكسبها.
وتابع، “قالت لي والدتي إن الرجال حتى كانوا يكاسرون بعضهم”، وكان بعضهم يعمد للتحايل من خلال تحضير بيضة من الخشب وتلوينها ليكاسر بها.
وعن خميس الحلاوة يتذكر عبد السلام شحادة، موظف متقاعد من أهالي المدينة، والذي يبلغ 56 عامًا، أن أهل البلدة كانوا يتبادلون الحلاوة الجوزية والشوشية والمشللة.
وتحدث رمضان الخطيب، وهو تاجر من المدينة، لعنب بلدي عن العادات التي كانت منتشرة في بلدته خلال عيد الحلاوة، فقال إن الخاطبين كانوا يتبادلون الهدايا فيه، “يقدم أهل العريس خلال الخطوبة هدية إلى أهل العروس وهي عبارة عن حلاوة محلية الصنع (حلاوة جرش وهي قمح مجروش ناعم يطهى مع الدبس والسمن، وأقراص خبز مدهونة بالسمن البلدي)، فيرد أهل العروس بهدية عبارة عن بيض مسلوق وملون”.
وأضاف عبد الوهاب، البالغ من العمر 62 عامًا، أن الناس كانت تعمد في خميس الأموات إلى الذبح وإقامة الولائم، ومن ثم يقرؤون الفاتحة على أرواح موتاهم.
الخضر
عيد الخضر يأتي في السادس من أيار، حسبما قال عبد الوهاب، “يعتبر الخضر هو اشتداد اللون الأخضر وبدء الربيع”، وأضاف رمضان (59 عامًا) أن تجار الفاكهة كانوا يضمنون مواسم محاصيلهم فيه.
وينسب هذا العيد في مناطق أخرى للرجل الصالح الذي رافق موسى وفق النصوص الدينية، وكذلك ينسب للقديس جورج الذي لاقى العذاب من الرومان للتخلي عن ديانته المسيحية.
الصليب
رغم وضوح الإشارة الدينية في اسم هذا العيد، إلا أن لهجة أهل الرحيبة حولتها إلى معنى آخر، فالصليب يأتي من الصلابة ويشار فيه إلى نضج المحاصيل وبدء تجفيف العنب وتحويله إلى زبيب.
واسترجع عبد السلام تلك الأوقات بنبرة من الحنين، وهو يقول، “كانت الكروم كالغابة وكانت ملاصقة لبعضها، وكان الجيران يجتمعون بألفة ومحبة كبيرة ويساعدون بعضهم (على القطاف ونشر العنب لتجفيفه)، ومن لم يكن لديه أشجار من العنب كان يأكل أكثر من الذي كان عنده”.
وشرح عبد الوهاب طريقة “سطح” العنب وتجفيفه، قائلًا إن يوم 23 من أيلول كان موعد قطف العنب وغسله ومن ثم نقعه في الماء والزيت قبل تجفيفه ونشره في مكان يسمى “المسطاح” إلى أن يتحول إلى زبيب.
كان أهل البلدة يعمدون خلال تلك الفترة إلى سلق القمح لصناعة البرغل، لأنهم إن سلقوه قبل ذلك الزمن فسيكون البرغل أسمر أما إن سلقوه بعدها يصبح أشقر، حسبما قال.
وأضاف، “يوضع القمح في خلقين (وعاء كبير) ارتفاعه يقارب المتر وقطره حوالي المترين، يسلق فيه، ومن ثم ينقل إلى أسطح المنازل حيث ينشر ويجفف قبل تخزين البرغل”.
وبالنسبة للعقيدة المسيحية فإن عيد الصليب يمثل ذكرى العثور على الصليب الذي استخدم لصلب المسيح، إثر بحث والدة الإمبراطور قسطنطين عنه عام 326.
بالاسم فقط
اليوم لم يبق من تلك الأعياد في مدينة الرحيبة سوى الذكرى، لا تقاليد تمارس فيها، ومنها ما يعرف بالاسم فحسب، مثل عيد الجوزة، الذي يطلق على موسم هجرة اللقالق، ويعتبر الفاصل ما بين بدء برودة الجو وانتهائها.
يقول عبد السلام إن تلك الأعياد لم يعد لها وجود منذ 20 سنة، في حين أشار عبد الوهاب إلى أن بداية زوالها كانت مع بداية السبعينيات، التي جفت خلالها ينابيع الرحيبة وتراجعت فيها الزراعة مع توجه أهلها نحو مصادر أخرى للرزق.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :