منصور العمري
مع انطلاق ثورة سوريا عام 2011، كان الإعلام أولى ساحات الصراع بين السوريين ونظام الأسد. حاول نظام الأسد منذ البداية التعتيم على ما يجري في سوريا، وتكذيب أي خبر يتحدث عن مظاهرات أو حراك ضده. منع الأسد دخول الصحفيين والمنظمات الدولية وأغلق مكاتب القنوات الإعلامية التي كانت تعمل في سوريا، وشن حملة ضد كل من استخدم موبايله ونشر خبرًا أو فيديو عن الحراك وعن جرائم أجهزته المخابراتية وقواته العسكرية. حاول الأسد إخفاء الحقائق في سوريا بتغييب أعداد كبيرة من الصحفيين والناشطين الإعلاميين والمعلومات قنصًا واعتقالًا وقتلًا تحت التعذيب وإعدامًا. بالمقابل، استمر ناشطو المعلومات والحقوق في نضالهم السلمي بتصوير الفيديوهات ورفعها على منصات مثل “يوتيوب”. دفع آلاف ثمنًا باهظًا لتصوير الجرائم والانتهاكات وتخزينها وتحميلها في منصات علنية، وضحّوا بكل ما يملكون من أجل توثيق هذه الجرائم وحفظها. رغم ذلك استمر الأسد وشبكاته الإلكترونية بمحاولة مسح هذه الأدلة على جرائمه، من خلال التبليغات الجماعية والقرصنة، وتعطيل حسابات من يعتقلهم.
لم تخمد ساحة الصراع هذه، بل عادت إلى الواجهة، مع تشديد “يوتيوب” سياسته في استضافة الفيديوهات نتيجة لاستخدامها من قبل منظمات متطرفة لنشر بروباغاندا إرهابية، وتكاتف المجتمع الدولي بحكوماته وقطاعاته الخاصة لمحاربة هذا المد المعادي للإنسانية. نتيجة لتشديد “يوتيوب” وغيره سياسات منع نشر المحتوى التحريضي أو العنيف، تعرضت كثير من القنوات الإعلامية والتوثيقية السورية التي تحفظ فيديوهات الانتهاكات والجرائم لضربة قاسية، تعود في سببها الرئيسي إلى عدم معرفة أصحاب هذه القنوات والناشرين فيها بسياسات “يوتيوب” الجديدة وشروط نشر فيديو قد يحوي مشاهد عنف أو جرائم. فبعد أن بدأ موقع “يوتيوب” باستخدام الذكاء الصناعي عام 2017 لتمييز المحتوى المخالف لسياسته في النشر، نفّذ الموقع وبمفعول رجعي إغلاق آلاف قنوات يوتيوب سورية كانت تنشر فيديوهات متعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، إضافة إلى تصاعد عدد الفيديوهات والقنوات التي لم تعد متاحة نتيجة للقرصنة أو حملات التبليغ المنسّقة.
لم يبذل “يوتيوب” على ما يبدو جهودًا ذاتية لتصنيف وحفظ الفيديوهات التي تحوي أدلة على جرائم حرب وانتهاكات، قبل أن يغلق القنوات ويحذف الفيديوهات، ناسفًا جهود وتضحيات بالدم بذلها ناشطو المعلومات والحقوق في سوريا. يؤثر فقدان هذه الفيديوهات سلبًا على جهود العدالة والمساءلة التي يبذلها المجتمع المدني السوري من منظمات وأفراد وعلى الداعمي والشركاء الدوليين لهذه الجهود.
قد يكون فيديو واحد في بعض الحالات الدليل الوحيد على جريمة حرب أو انتهاك في سوريا. قد يرقى حذف “يوتيوب” لهذا الفيديو إلى مشاركة فعلية في التغطية على الجريمة بإتلاف الدليل، ولو بشكل غير متعمد. يجب التواصل مع “يوتيوب” ومحاولة مراجعة جميع الفيديوهات المتعلقة بالشأن السوري التي حذفها والمنشورة منذ آذار 2011. يتطلب هذا الأمر جهودًا وموارد كبيرة، لا يعوزها “يوتيوب” ويفرضها عليه واجبه الأخلاقي والقانوني. كما يجب أن يصحح “يوتيوب” مساره، بإنشاء وحدة قانونية متخصصة تحلل جميع الفيديوهات المحذوفة وتسترجع كل ما يظهر أي دليل على جريمة، وجعلها متوافرة لأصحاب الشأن.
تطلبت هذه الأزمة الجديدة بذل جهود كبيرة لمحاولة التعرف إلى أصول المشكلة والتواصل مع “يوتيوب” ومحاولة استعادة هذه القنوات الإعلامية، وهو ما فعلته منظمة الأرشيف السوري المختصة بحفظ المحتوى المرئي وتحليله، التي أسسها ناشطون سوريون عام 2014 كأول مبادرة من نوعها في سوريا، بدعم منظمات بحثية وحقوقية دولية غير حكومية.
منذ تأسيسه، حفظ الأرشيف السوري نحو مليون ونصف مليون فيديو متعلق بانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي في سوريا، ثم أضاف إلى جهوده مساعدة ناشطين ومنصات الإعلام والتوثيق السورية لاسترجاع قنواتها المحذوفة في “يوتيوب”، من بينها قناة شام، وقناة مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، وقناة محمود الحموي، وقناة مركز حلب الإعلامي، وقناة سمارت نيوز، وقناة أورينت، وقناة قاسيون، وقناة فرات بوست، والمرصد السوري لحقوق الإنسان، وشبكة دير الزور الإخبارية، وشبكة أخبار الرقة، وقناة أوغاريت، وغيرها.
قال المدير التنفيذي لمنظمة الأرشيف السوري، هادي الخطيب، لعنب بلدي إن المنظمة رصدت في العامين الأخيرين منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وجمعت أدلة حول أعداد مقاطع الفيديو، والمنشورات المرتبطة بحقوق الإنسان والمحتوى الإخباريّ، التي أُزيلت من قبل هذه المنصات.
لماذا يحذف يوتيوب محتوى أو قناة معينة؟
قال عبد الرحمن جلود، باحث في الأرشيف السوري، إن نحو 80% من الفيديوهات المحذوفة كانت بسبب نشر محتوى بصري عنيف، وقدم مثالًا توضيحيًا عن كيفية تعامل “يوتيوب” مع الفيديوهات والقنوات، وما الذي يجب أن يفعله ناشر الفيديو كي يتحاشى حذف الفيديو المنشور أو حتى القناة بأكملها.
أعاد أحد الناشطين نشر فيديو يوثّق قصف التحالف الدولي في دير الزور، باستخدام مواد بصرية نُشرت من قبل داعش فحذف “يوتيوب” القناة بأكملها، والتي وثقت انتهاكات حقوق الإنسان في دير الزور منذ عام 2011، تحت بند “نشر محتوى ترويجي لجماعات إرهابية يخالف سياسة يوتيوب”.
أضاف جلود أنه عند نشر فيديو يجب إضافة سياق حول الحادثة التي يظهرها الفيديو، ومعلومات حول هدف النشر في وصف الفيديو، كي لا يتم حذفه تحت بند “محتوى بصري عنيف يخالف سياسة يوتيوب”، بالإضافة إلى تحديد الفئة العمرية، فمثلًا يمكنه الاستفادة من هذا المثال، في كيفية وصف الفيديو:
“مقتل 6 مدنيين، بقصف صاروخي على بلدة النيرب، في سياق حملة تصعيد جديدة تطال مدنًا وبلدات في ريف إدلب”.
الوصف: الهدف من نشر هذا الفيديو هو توثيق انتهاكات حقوق الانسان في سوريا وليس صدم المشاهدين أو إثارة مشاعرهم أو الإساءة إليهم أو التحريض على العنف”.
قال الخطيب إن الأرشيف السوري استطاع استعادة أكثر من 200 ألف فيديو منذ 2017، وأضاف أنه كي يتفادى الناشطون حذف الفيديوهات عليهم التواصل مع إدارة “يوتيوب” بشكل مباشر لاستعادة القنوات وتوضيح أسباب النشر والهدف منه، وإذا لم تتم مراجعة طلبهم من قبل “يوتيوب” يمكنهم التواصل مع فريق الأرشيف السوري، كي يساعد في استعادة القنوات أو الفيديوهات عبر الإيميل: info@syrianarchive.org.
لا تقتصر هذه المشكلة على “يوتيوب”، بل تشمل جميع منصات استضافة الفيديوهات والأخبار بما فيها “فيس بوك” و”تويتر”.