رويدة كنعان
“في حدا هون؟ حدا عم يسمعني؟ الأمن اعتقلني وما بعرف وين أخدوني، حدا بيقدر يساعدني؟”.
صوت السيدة X يكسر الصمت على خشبة المسرح الوطني في مدينة شامبري في نوفمبر 2018، وكأنها مغناطيس جذب خمس نساء وشابًا من بين الجمهور ليشاركنها حكايتهم، فأعود بذاكرتي لباحة سجن عدرا للنساء في سوريا، حيث نتمشى أنا وصديقاتي بين الجدران العالية، ونحاول أن نسرق القليل من أشعة الشمس الصباحيّة، وندير حوارًا بيننا، كأنّنا في برنامج صباحيّ على الراديو، وأنا المذيعة التي تدير الحوار.
حوارنا في 10 نيسان 2013 عن الأحلام البعيدة.. الأحلام التي تُختصر بلقاء الأهل والأصدقاء، وتناول وجبات كنا نتناولها سابقًا ولا نعيرها أيّ اهتمام. الحلم بالذهاب إلى البحر والنظر إلى الأفق، فلا يعترض مدى رؤيتنا أيّ جدار. فتقول ولاء؛ “نحن باقيات هنا كلّ العمر، أكثر ما نستطيع أن نحلم به، هو أن نحصل على عدد أكبر من حبات الزيتون أو البطاطا، أو مستوى أقل من العقاب”. تعترض أحلامنا قرقعة مفاتيح السجن وصوت خطوات السجان “أبو علي”، يفتح الباب ويصيح بصوته الأجش “رويدة كنعان إفراج”.
اختلطت المشاعر بين دموع لا تتوقف لفراق الأحبة، والفرح بالولادة الجديدة. وتختم ولاء برنامجنا الصباحي وتقول: “لا تنسينا، احكي للعالم عنا وخبريهم شو عم يصير فينا”.
حاولت أن أبقى في دمشق، وبسبب تهديد النظام بإعادتي للسجن، قررت الرحيل، فرسمت تفاصيل مدينتي دمشق في ذاكرتي، وطبعت في مخيلتي ابتسامات وضحكات صديقاتي اللواتي تركتهن خلفي في السجن ورحلت. رحلت فقط لأنني لم أعد أستطيع احتمال أيّ إهانة لكرامتي في وطني سوريا، بعد ثلاثة اعتقالات بفترات مجموعها يتجاوز العام، وعدت صديقاتي أن أتحدث عنهن، وأخبر العالم عمّا يتعرضن له من اغتصاب وتحرش وتعذيب يومي في سجون النظام السوري، أقنعت نفسي أنه يمكنني الاستمرار بالنضال في أيّ بلد أكون فيه بطريقة ما.
في باريس، المدينة الجميلة التي أحببتها، بدأت أبحث عمّا يمكنني فعله، لكي لا أنساهن مع فوضى اللجوء والحياة الجديدة والأوراق التي لا تنتهي، وهنا تذكرت صديقي المخرج السوري الفرنسي رمزي شقير، الذي أخبرني سابقًا أنه سيعمل على مسرحية عن المعتقلات السوريات، فتحدثت إليه وبالفعل شاركت بالمسرحية، وكانت في عرضها الثاني واسمها “X-Adra”، عدرا هو اسم يشير إلى السجن المدني في العاصمة دمشق.
شكّلت الثورة منذ بدايتها عام 2011 بالنسبة لرمزي أهمّ لحظةِ تحوّل في تاريخ سوريا الحديث، لما سيحمله هذا التاريخ من تغيير، وتعويض عن الحرمان، الذي عاشه الناس في ظلّ جدران الخوف التي خلّفها النظام العسكري. وكان سؤاله ماذا يستطيع أن يفعل أو يقدم؟
في عام 2015، عندما التقى مريم، الناجية حديثًا من الاعتقال، أخبرته شيئًا عمّا تتعرّض له النساء في سجون النظام السوري، وكان عنيفا وقويًّا، أعاد إلى الواجهة هاجسه القديم الجديد، “عليّ أن أفعل شيئًا ما للثورة السورية، لثورتي على الأقل”.
قرّر رمزي أن يقيم عرضًا مسرحيًا تقدمه الناجيات من الاعتقال على الخشبة، للتذكير بوجود النساء ودورهن القيادي في الثورة السورية، وتكريما لدورهن في الحياة السوريّة بشكل عام. وهنا كانت الولادة لـ X ADRA.
عرضت مسرحية “X-Adra” في مدينة مولوز، ثم في مدينة أنسي وشامبغي ومنهايم الألمانية.
كنا على خشبة المسرح خمس نساء سوريات وشابًا متحول جنسيًا، أعمارنا بين 20 و60 عامًا، نروي باللغة العربية ترافقها ترجمة فرنسية، شهاداتنا حول الاعتقال من قبل النظام السوري، قبل أن نجبر على اللجوء في ألمانيا وفرنسا، وكلنا نرغب في العودة إلى سوريا عند إقامة السلام والديمقراطية.
قام الكاتب وائل قدور مع كلّ منا بكتابة قصته، وقمنا بلعب أدوارنا على خشبة المسرح. فتشابكت قصصنا لتحكي قصة المعتقلة X التي ما زالت في المعتقل، وتنتظر إما الموت أو الحرية، وهما سواء بالنسبة لها لأنها لا تتمنى سوى أن تخرج من هذا المكان المقيت.
أخبرنا الجمهور على خشبة المسرح عن جحيم الاعتقال وآليات التجريد من الإنسانية التي يستخدمها النظام، أظهرت قصصنا أن الانتهاكات مستمرة منذ زمن الرئيس حافظ الأب لبشار الابن، حيث يوجد على خشبة المسرح ثلاثة أجيال من المعتقلات؛ هند التي اعتقلت مرتين في الثمانينات، تختلف قصتها في تفاصيلها عن قصة آيات التي اعتقلت قبل الثورة، وكذلك عن قصص البقية خلال الثورة، لكن النظام المجرم واحد وأساليب التعذيب متشابهة.
قصتي تحكي عن صديقي خالد، الذي اعتقل معي ولم يخرج إلى الآن، وكانت آخر كلمة سمعتها منه بعد ساعة من اعتقالنا “أحبك”، وغاب صوته ولم أعد أعرف عنه شيئًا. بحثت عنه كثيرًا ولم أجده، ربما مات كما أخبرني أهله، وربما ما زال في المعتقل مثل أكثر من خمسمئة ألف معتقل ومختفٍ قسرًا في سوريا.
قررت أن أتحدث عن خالد بصوت عالٍ، لكي أعرّف العالم به، وبصدقه وإنسانيته، وكيف ضحى بحياته ليعيش أبناء وطنه بكرامة. لم يكن التحدث عنه بالأمر السهل، خاصة أنني أشعر بتحمّل جزء من المسؤولية باعتقاله، بسبب عملي في الصحافة الحرة الممنوعة في بلدنا، وقد قرّر أن يرافقني ظنًا منه أنه يستطيع حمايتي. لكن لم نستطع أن نحمي بعضنا، فأنا لم أجده، ولم أستطع أن أفعل له شيئا، وما زلت أبحث عنه.
على خشبة المسرح عندما تتحدث آيات عن صديقتها منال، التي تعرّضت للاغتصاب في فرع الأمن السياسي بدمشق عام 2010، يعود بي الزمن وأسمع صوت عبير التي ما زالت في المعتقل، وتعرضت للتحرش أكثر من مرة أمام زوجها، لتجبر على الاعتراف بما لم تفعله.
وعندما تتحدث هند عن الطفلة سمية التي أنستها عذاباتها في المعتقل، أسمع من المهجع الثالث في سجن عدرا صراخ الطفل أحمد، الذي ولد في السجن عام 2013 من أب لا يعرفه لا هو ولا أمه، وما زال في السجن لغاية هذه اللحظة.
تصل الحكايا إلى ذروتها بقصة الشابة علا، التي عرفتها في سجن عدرا، وأخبرتني في أحد الصباحات في باحة السجن، أنها عندما تتحرّر من هذا المكان ستكون “هو” كما يرغب أن يكون. وعلا هي الفتاة التي قتلها علي في سجنه، ليكون الإنسان الذي أقف معه على خشبة هذا المسرح. علا التي تعرضت للكثير من القهر والذل والتعذيب، وأكسبها المعتقل القوة التي لم تكن تمتلكها سابقًا، لتصبح “علي” الذي امتلك شجاعة إضافية للتعبير عن نفسه، وعرف أن لا شيء أثمن من الحرية، وأنها تستحق النضال والتضحية للوصول إليها.
القوة في إخبار الحكايا هو ما يميز المسرحية، حيث وصل للجمهور على خشبة المسرح، كيف استطعنا مواجهة العنف والتعذيب لأشهر أو سنوات خلال الاعتقال، ونواجه الآن الحياة الجديدة والغربة في بلد المنفى.
وبعد أيّ عرض يسألنا الجمهور الكثير من الأسئلة. فقد سألني أحدهم إذا كنا نستطيع التواصل مع المعتقلين والمعتقلات من خلال الهاتف؟ فقلت له تهكمًا: “نحن يا عزيزي لسنا في فرنسا، نحن في سوريا الأسد حيث يقبع مئات الآلاف من المعتقلين والمعتقلات في سجون النظام السوري وتختفي أخبارهم لسنوات، وربما يموتون ولا يعرف ذووهم شيئًا عنهم”.
وسألتني سيدة أخرى، “كيف تستطيعين الاستمرار بالحياة بعد كل ما تعرضتِ له؟”، إنّها لا تعرف أننا في سوريا امتهنا الحزن والقهر، وأصبح جزءًا من تكويننا. وبرغم هذا فإن المعتقل أكسبني الكثير من القوة والصلابة. فلا شيء في الحياة أصعب من المعتقل في سوريا، وبالتالي كلّ ما أتعرض له من تفاصيل حياتية، هو عادي وبسيط، وأستطيع التأقلم معه بسرعة.
يمكن أن يخيّل للآخرين أننا اعتدنا قصصنا، فنحن تدرّبنا على سردها مئات المرات، لكن الحقيقة في كلّ مرة أقصّ قصتي، أو أسمع قصص صديقاتي، أشعر وكأنها المرّة الأولى، ولها الأثر نفسه، وكأنها تحملني وترميني بين أربع جدران وباب مغلق.
لم تكن تجربة سهلة لجميع المشاركات في البداية كوننا غير محترفات للعمل المسرحي. في البداية شعرت بالخوف والتوتر والارتباك من الوقوف ومواجهة الجمهور، حيث اعتدت أن أخاطب الجمهور في عملي كصحفية في الراديو من وراء المايكرفون، وخاصة أنني أتحدث عن صديقي خالد الذي أفتقده دائما، ولم يكن التحدث عن الاعتقال بشكل عام وعنه بشكل خاص بالأمر السهل، خاصة وأنّها تجربتي الأولى في المسرح، لكن من خلال التدريبات، استطعت المضي قدما وتجاوزت خوفي وخجلي.
تقول كندة إن الوقوف على الخشبة كان مقلقًا ومخيفًا في البداية، وكان تحديًا كبيرًا بالنسبة لها، لكن في العرض الرابع، كانت مرتاحة أكثر، فهي سعيدة بردة فعل الجمهور الفرنسي الصادقة، وتجد أنهم مطلعين على الكثير من التفاصيل حول سوريا قبل العرض، وهذا يشعرها بالرضا.
بعد كلّ عرض للمسرحية أتأكد أن المسرح وسيلة من وسائل النضال ضد كلّ أشكال الظلم في العالم، فلا يجب أن يقتصر النضال بأيّ قضية على المظاهرات المطالبة بالحقوق، أو البيانات الصحفية أو طلب التضامن من الساسة في البلاد التي نعيش فيها حاليًا، فالفن من أنجع الطرق لإيصال الصوت الصادق والمطالب المحقة. المسرحية مستمرة في العرض في فرنسا وأوروبا حتى تخرج المعتقلة X من المعتقل، وتستطيع أن تقول حكايتها بنفسها. ونعود نحن ونفتح الزنازين ونملؤها شمسًا وهواءً، لأننا سنبقى حاملات لسجننا معنا أينما ذهبنا ما لم نفعل ذلك.