هم قذىً في عيوننا يا أبي، يدّعون أنهم يريدون إخراج الخشب من أعيننا، لنبصر حياتهم، بعد أن احترفوا صناعة الأكفان لنا، باسم الدين مرة، وباسم الحرية مرات ومرات.
إليك أبي.. إن كنت تسمعني.. أيها الغائب الحاضر
لن نستهلك مساحة من مقالنا في إلقاء الضوء على دور الأب في الأسرة، فليس هذا محور حديثنا، ولكن بنفس الوقت دعوا ذواكركم تستحضر الأب الحاضر، أو ذاك الغائب الحاضر، لا الحاضر المغيّب لذاته.
أب وأم بذات الوقت
كثيرًا ما سمعنا قصصًا عن أمهات قضى أزواجهن نحبهم في ظل هذه الأحداث التي تعصف بالبلاد، أو غيّب آخرون اعتقالًا أو حصارًا أو تهجيرًا، وبقيت الأم هي التي تعيل وتربي الأولاد، تنجح في مواقف، وتهفو بزلات في مواقف أخرى.
ولكن الأقسى تلك الأم التي تترنح بين دور الأب تارة والأم مرات أخرى، الأم التي لم يسخو عليها رحمها بأولاد، فاضطرتها الظروف لتربي أولاد غيرها.
تجلس السيدة “أمل” في قبو أحد الأبنية، في غرفة تفصلها ألواح خشبية عن غرف آخرين، تربّي أبناء أخيها الذي استشهد وزوجته وابنهما الكبير تحت القصف، “مرة أكون الأب، ومرة الأم لهم، والأقسى عندما أكون العمة، في تلكم اللحظة يعود اليقين للأولاد أنني لست إلا عمتهم، وأن الحرب أفقدتهم والدهم وأمهم، عندها نتكوم في زاوية الغرفة التي لا تقينا إلا حرارة الشمس، دونما أن تحمينا من المذلة”.
الأب معتقل.. الغائب الحاضر
يتصارع الأولاد أيًا سيجلس جانب كرسي والدهم الفارغ، فهو لم يغب عنهم إلا بجسده، أما روحه وصوته وضحكاته وحتى تعليقاته بقيت ماثلة، يتبادلها الأولاد متفاخرين فيما بينهم أيهم تسعفه ذاكرته أكثر باستجماع مواقف لوالدهم الغائب في سجون الأسد لما يزيد عن ثلاث سنوات. وتردف السيدة سمر “حتى عندما أشتري ثيابًا لأولادي، نختار سوية ثيابًا لوالدهم كما يحب، ونقدمها مغلفة لأحد المحتاجين، كما كان زوجي يعلم الأولاد حب الصدقة والإيثار، ولا ننسى صبيحة كل يوم أن نكتب على دفتر مذكرات العائلة مواعيدنا اليومية، مع ملء حقل الأب بعبارة: “أنا أعمل لأجل مستقبل أجمل معكم في وطن أجمل، سأحاول ألا أتأخر، فقط ادعُ لي بالسلامة والصبر”.
الأب الشهيد
“لحظة موت أبي هي ذاتها لحظة تجمد مشاعري لا دمائي في عروقي فقط، لحظة توقفت عقارب الزمن عندها عن التزحزح من مكانها، لحظة غاب فيها قوس قزح حياتي، واستحالت أيامي بلا ألوان”، نعم أنا بيلسان عمر وأقولها لكم، مهما قرأت عن الشهادة، وعن رثاء الأب، ومهما كتبت لأفرّغ تلك الشحنات –كما ينصحونني-، ولكن لن أنكر أنني ما زلت رهينة تلكم اللحظة، مقيدة أحاول أن أنفذ وصية أبي الذي ما زال حتى الآن يأتيني في منامي، ويبقى معي في كل لحظات يقظتي، ويوصيني بأمي وإخوتي وأولادهم، وأنا غير دارية ما أخبره، فوصيته في عيني، ولكن حال الزمان بيني وبين غالبيتهم، وفرقت قضبان المعتقل بين عدد منهم وبين أحلامي بعناقهم.
تلك اللحظة زادت من كفري بالوطن، نعم.. نعم.. أنا لا أؤمن بثقافة اسمها نموت ويحيا الوطن، ترى لمن سيحيا هذا الركام الممزوج بدماء أبنائه، مؤمنة حد اليقين بقضاء الله، وبأنه استردّ وديعته، وأن الله سيبدل أبي وشهداءنا دارًا خيرًا من دارهم.
ليت أبي معتقلًا أو شهيدًا
لا تستغرب بهذه العبارة، وهي نقلًا عن سلام، فتاة بعمر الصبا، لا تلام على أمنيتها، تمنتها وانتهى الأمر، فقد ضاقت الحياة بها وإخوتها، بعد تعرض والدها للإصابة بشظايا قذيفة، فبتروا له قدميه، وما من معيل لهم، تتفقد حال أولاد عمها المعتقل، وأولاد خالها الشهيد، فتجد بيوتهم لا تخلو من الطيبات، في وقت تحلم هي وإخوتها حتى بتفاحات حمراوات، “ياريت بابا معتقل أو مستشهد، كانوا عطونا مصاري بالجمعية وجبنا تياب جديدة وأكلات طيبة متل ولاد عمو وخالو”، فبقدر ما ضاقت الدنيا بأحلام سلام، ضاقت على أطفال سوريا حتى الودج.
يا أبتِ لا تكلنا لأنفسنا
مساء كل إجازة تودّع ريم والدها الذي يجهز بندقيته، ويهمّ بالخروج إلى مناوبته على إحدى جبهات جيش الأسد، وهي تتوسله ألا يخرج ويتركهم للأيام والقدر، “أحاول أن أقنع أبي أن لا جدوى من هذه الحرب، فنحن بحاجته أكثر من هذه الجبهة المفتعلة التي زجوهم بها، سواء كان المسلحون من فعل هذا أم النظام الذي لم يستطع حتى الآن إيقاف المسلحين عند حدهم، فلا يهمني الفاعل الحقيقي، بقدر اهتمامي بأبي ومصير أسرتنا، وليالي بردنا بدونه خائفين من رنة الهاتف وجرس البيت، خوف أن يحمل أحدهم لنا خبرًا لا نطيق عليه صبرًا”.
الأب مجرد صورة
تتملّك السيدة أم رامي الحيرة بعد أن رأت صورة زوجها ضمن الصور المسربة لشهداء تحت لتعذيب، فقد سبق وخصصت وقتًا تجلس وأولادها يدعون لأبيهم كل يوم، وعندما جاء هذا الموعد صبيحة ليلة تلقيها الخبر، جلست عاجزة، أتكمل الدعاء مع أولادها كما ولو أن زوجها عائد، يدعون له بالفرج والتخفيف، أم تخبرهم أن والدهم قد استشهد، فكيف لها أن تصف لهم معنى “شهيد تحت التعذيب”؟ وكيف لعقولهم قبل قلوبهم أن تستوعب مثل هذه الحالة؟ أم تخفي عنهم النبأ، ويبقون مع الأمل، ولكن ألن يعاتبها أولادها عندما يكبرون على أيام عاشوها بوهم كاذب ” أشعر بثقل يكاد يحطم أعصابي، لا أدري ما أفعل، هل أخبر أولادي أم أستمر معهم في كذبة أو وهم أو مهما كان الاسم؟!!”.
لوحدكم قاعدين.. ما معكم ولا رجال؟
تقطن السيدة (س) مع ابنتها المتزوجة، بعد أن نزحتا من داريا إلى كفرسوسة (قرب العاصمة دمشق)، تعرضتا لمداهمة منزلهما، وعلى غير العادة، دخل اثنان فقط من عناصر الأمن، وبلباقة ممزوجة برائحة قساوة وعنجهية أولئك العناصر، سألها أحدهم “وين زوجك وولادك” ولما كان جوابها أن لا يوجد شباب في المنزل، فأولادها وزوج ابنتها القاطنة معها معتقلون مما يزيد على سنتين، وزوجها استشهد برصاص قناص، وتوقعت ردًا منهم كعادتهم إذ ينهالون عليهم بالشتائم، لكن هذه المرة أدهشتها ردة فعلهم، فعندما سمعوا إجابتها بأنهم لوحدهم في المنزل بدون رجال، جمدت الدماء في عروق عنصر الأمن –كما خُيّل لها- وأعاد العبارة عدة مرات “يعني ما معكم ولا ختيار ولا ولد صغير… هيك لوحدكم قاعدين.. ما معكم ولا رجال.. ديروا بالكم ع حالكم.. وإن شاء الله قريبًا بترجعوا ع بيوتكم”.
رجال بالأجرة
أطلقت إحدى القنوات إعلانًا عن وظيفة “رجل بالأجرة”، تستأجره العائلة التي لا معيل لها، ويؤدي لها أعباء المنزل، من إصلاح أعطال، وتنظيف الحدائق، وقص العشب، وغيرها من أعمال تعجز بعض النسوة عن القيام بها.
هذا الحال إن كان ممكنًا في بلاد تنعم بالسلام، ويغدو فقد الأب أمرًا استثنائيًا، فما عسى بلادنا والحرب مستعرة لمّا تضع أوزارها بعد فاعلة، هل نفتح على أسواق العمل لدينا بابًا جديدًا نستقطب من خلاله المئات بل الألوف من رجال دول أخرى ليعيلوا تلكم الأسر!!
ليس الأمر من باب الفكاهة، بل من باب الألم لعظيم الفقد لدينا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :