بس لا تقولوا لحدا..
أصوات همهمة تتعالى كل حين، وجمع من نساء وفتيات اجتمعن بانتظار دورهن على الفرن لاستلام رصيدهن اليومي من الخبز في إحدى المناطق المحررة؛ أصوات الطائرات تحلق في الأجواء ورصاص يضرب يسمع صوته من بعيد، وزقزقة لبعض العصافير تطير في السماء، و”زمور” سيارات و”موتورات” للمارة تجعل أصوات النسوة تضيع شيئًا فشيئًا وتتعالى أصواتهن لتكمل الحكاية.
سيدتان، واحدة في منتصف الأربعين والأخرى في مقتبل الخمسين تقفان بانتظار الخبز، ولأنهما واقفتان منذ الصباح، ولم يصل دورهما بعد، فلا شيء يجعل الوقت يمضي سوى “حديث النسوان”: “والله يا خيتي ابني الله يحميه طالع مع رفقاتو اليوم المسا عندهن عملية كبيرة قلي… وصرلهم مخططينلها شي شهرين تلاتة يمكن، وقال رح يشارك فيها أكتر من كتيبة ويمكن سعيد ابن أم علي رايح معهن.. بس بتعرفي انو هالعملية قال كتير خطيرة.. وسرية كمان؟ الله يرضى على اسمو نبهني وقلي ما قول لحدا”.
وفي مقربة من حشد النساء، تتعالى الأصوات وتنخفض وفقًا لتعالي أصوات السيارات والدراجات التي تمر في الشارع، أو حتى اقتراب صوت هدير الطائرات وأزيز الرصاص.
أمينة، فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، تركت مدرستها منذ ثلاث سنوات، وتمضي وقتها باتصال مع صديقتها، لتشكي لها همومها: “والله محروق قلبي، مبارح اتصل فيي حبيبي وودعني، قال اليوم عندهم عملية كبيرة عالجبهة وقلي سامحيني بيجوز ما ارجع” بس أمنّي ما قول لحدا وانتي رفيقتي الروح بالروح.. لا تقولي لحدا”.
مع دموع تذرفها على عرض خديها، تجيب فاطمة: “لا تزعلي يا خيتي والله مبارح اتصل فيي خطيبي وقلي نفس الحكي، على جبهتهم كمان قال اليوم عندهم عملية كبيرة وقال مأمنين كمية كبيرة من السلاح وان رجع ليعملي عرس ما صار، وكمان قلي لا تقولي لحدا لأن العملية سرية متل ما بتعرفي”.
على الجبهة، شباب يحملون أرواحهم على أكفهم، لكنهم قبل الذهاب إلى الجبهة، اتصلوا بأهلهم أو محبوباتهم لوداعهن، وخلال الاتصال، تتلقى الحبيبات أو الأمهات خبر الجبهة، وأين ومع من وكيف والعدد والعدة بأدق التفاصيل.
وعلى الجهة المقابلة، إما أذن شبيح تسجل أو عين “عوايني” تراقب.. وخلال العملية، يحاصرهم الجيش فينقلب السحر على الساحر ويبقى المقاتلون تحت ألطاف الله.
أبو علي، وفي دكانه الصغيرة، يستقبل كل يوم رجال الحي في دكانه، ومن حديث لحديث، وبما أن الأحداث الجارية حديث الساعة “ابني عمر الله يرضى عليه ما عم ينام بالبيت، داير من مكان لمكان وهوي عم يساعد هالنازحين، يا ولدي من بيت لبيت ليأمن كم غرض لهالمحتاجين”.. بس الله يخليلكن ولادكم يا جماعة “لا تقولو لحدا” بتعرفو الوضع صعب والعواينية كتار.
وما بين حديث عشوائي يسمعه أحد بالصدفة أو يتنصت عليه من خلال مكالمة هاتفية، لا شيء قد يكون مشتركًا سوى “لا تقول لحدا”، كلمة يذيل بها المتحدث كلامه ليؤكد أن كل كلمة نطق بها كانت “سرية” أو خطيرة، دون أن يدرك أنها ستكون بمثابة مؤقت لقتل أحدهم أو تكون سببًا في اعتقال آخر أو إفشال عملية استغرق العمل عليها شهورًا وباءت بالفشل… “ولا تقولوا لحدا”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :