طارق جابر
إنهم ضحايا النظام الأسدي، هكذا يصف البعض من المعارضين والثوريين، الموارد البشرية التي تشكل هيكليات الجيش والأمن والشبيحة فيصبح من سَجن وقَتل واغتَصب وهجَّر وسَرق ببساطة ضحية، وليس شريكًا بالجريمة.
ولكن لماذا هم ضحايا وليسوا مسؤولين عما ارتكبته أيديهم من جرائم وفظائع؟ السبب حسب أصحاب هذا الرأي: رُهاب السلطة، عدم توفر خيارات بديلة، العوامل النفسية الناجمة عن ضخ الأكاذيب والبروباغاندا وربما الأدلجة وشحن ذاكرة مناصري النظام بالحوادث المذهبية الدموية العابرة لتاريخنا البائس، بما يضمن كراهية كامنة جاهزة للانفجار (حين الطلب) بوجه شريك الوطن، وبالتوقيت الذي يختاره رأس النظام.
ولكن هل كل ما ذكر يمكن أن يصنع قاتلًا أو مغتصبًا بالإكراه أو بالحيلة؟! هل عدم الانحياز إلى الإنسانية أمر طبيعي ويجب تفهمه، وهل يصعب على من يطلب منه تنفيذ جريمة لصالح السلطة أن ينسحب من المشهد، وألا يحمل الوزر الأخلاقي والقانوني الناجم عن الاعتداء على حياة وكرامة وممتلكات إنسان مثله؟ هل يفتقد إلى المحاكمة المنطقية البسيطة؟ هل وقع تحت سحر السلطة أم أصابه مس من الجنون؟ أم أنه قبل بكل حماس المشاركة بالجريمة لأن مرتكبها (السلطة)، هو الطرف الأقوى، وبالتالي يأمن العقوبة ويأمل بأن يقبض ثمن هذه المشاركة بنفوذ ما في المستقبل، إضافة لما “عفشه”، أو ما غمره بلحظة ارتكاب الجريمة من شعور سادي ناجم عن السيطرة التامة والتحكم بمصير الضحية التي تمثل أغلبية السوريين الذين أرادوا أن يعيشوا وأبناءهم سادة بوطنهم، لا رعية بمزرعة الأسد وشاليش ومخلوف…
وإن كان وصف الضحية ينطبق على من وقع تحت معاناة جسدية أو معنوية، ناتجة عن فعل أو توجه سلبي من فرد ما أو مجموعة بشرية، وهي السلطة بسياق المقال، فما المعاناة التي أحاطت بمكونات النظام وأتباعه وشركائه؟ هل هي عدم القدرة النفسية على عصيان الأوامر؟ وإن كان الجواب نعم، فكيف يمكن محاكمة أي مجرم بهذه الحالة؟ فمن المعلوم أن فعل الجريمة لا يقع دون أن يكون مرتكبها تحت تأثير عوامل جسدية أو نفسية تبرر له الجريمة، فهل يعفى السارق لأن سرقته هدفها تحسين حياته المادية والحصول على المزيد من الرفاهية، هل يعفى المغتصب من أعباء جريمته لأنه يعاني فرطًا بهرمونات الذكورة مثلًا؟ وهل يعفى القاتل لأنه ولأسباب نفسية يستمتع بمنظر الدم ويطرب لعويل الضحايا وأناتهم! وهل يعفى الداعشي على قتله لغير المسلم بحجة أن عقيدته التي يؤمن بها تبيح له قتله؟ هل على القاضي إطلاق سراح المجرمين لأنهم وقعوا تحت تأثيرات لم يجدوا منها خلاصًا؟!
وإن كان رجالات النظام وأتباعه ضحايا النظام فلماذا لا يصح أن يكون رأس السلطة أيضًا ضحية؟! لماذا نطالب بمحاكمة بشار الأسد على جرائمه ضد السوريين مع أنه ربما يكون ضحية لكاريزما أبيه، عرّاب الجريمة الأول، واحتقاره له وتفضيل أخيه باسل، ما ولد لديه عقدة نقص حاول من خلال جرائمه المستمرة الخلاص منها! وبالتالي، حسب أصحاب هذا الرأي، هو جدير بأن يتلقى معالجة نفسية! أو ربما يرى البعض أن يعفى عنه لأن السلطة لها تأثير السحر الأسود على من يحوز زمامها فتقوده بدلًا أن يقودها، وتجبره على الدفاع عنها بكل الوسائل حتى الوحشية منها.
لم يخرج المتظاهرون ولم يتقدم الصفوف نخب المجتمع السوري، ولم يخاطر الشباب السوري بحيواتهم لإجراء التغيير المأمول والوصول إلى دولة الحريات والكرامة، إلا بعد أن كسروا حاجز الخوف واختاروا طواعية العمل والتضحية لإنجاز الهدف العام متخلّين عن خيار السعي لتحقيق المصلحة الخاصة والسعادة الشخصية، مع وعيهم بالمخاطر المترتبة على مثل هكذا قرار بمواجهة نظام ديكتاتوري فاشي، إلا أن أحدًا لم يكن ليتصور أن يستطيع الأسد حشد هذا الكم من السوريين المتجردين من وطنيتهم وإنسانيتهم ليشاركوه الجريمة، ويشربوا حتى الثمالة من الدماء، ويطربوا بصرخات المقهورين المعتقلين، ويبرروا الجريمة، هؤلاء يجب أن يتحملوا مسؤولية أعمالهم، وإذا كان صراعهم النفسي بين خيارين إما طاعة عمياء لأوامر السلطة الفاشية، أو الانحياز لإنسانيتهم ومواجهة العواقب، فاختيارهم المشاركة بالجريمة لايستوجب الشفقة بل يستوجب محاكمة عادلة.
إن سعي بعض المعارضين والثوريين للفت الأنظار بطروحات يظنونها مدخلًا لقبولهم من الآخر، على حساب قضية حقوق غير قابلة للتصرف (للتنازل) هي حقوق الشهداء، والثكالى، والأرامل، والأيتام، والمعتقلين، والمهجرين، والنازحين، والمقهورين، ومن عض على جرحه كل هذه السنين، ليأتي من يساويه بجلاده أمر يعبر عن ضعف المحاكمة المنطقية أو إفلاس أخلاقي يجب تداركه.
إن كل من شارك بالجريمة يجب أن ينال جزاءه من خلال محاكمة عادلة، وإن طال انتظارها، هي فقط ما سترأب الصدع بين أطياف المجتمع السوري، وتجاوز هذه الخطوة التأسيسية سيبقي الجرح السوري مفتوحًا ولن تغلقه أي إجراءات تجميلية أو تحايلية.