إبراهيم العلوش
مع توارد الصور عن أعمال ترميم الجسر القديم في الرقة، صدر تقرير منظمة العفو الدولية عن تدمير الرقة بأحدث الأسلحة، وبطريقة إبادة مدينة قائمة، وهو ما لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية.
تتضمن صور الترميم التي أوردتها عنب بلدي منظرًا لردمية ترابية يعتليها تركس من أجل أن يتمكن سائقه من العمل على رفع المواد إلى الأعلى بسبب صغر التركس، الذي يبدو أنهم قد استقدموه من ورشة جمع الأنقاض من أجل ترميم المنفذ الوحيد للمدينة، العابر لنهر الفرات، وذلك بعد استبعاد الجسر الجديد الذي تضرر بشكل أكثر كارثية. وقبلها نشر أحد المهندسين الرقاويين صورة له مع قالب صبة أرضية الجسر وتسليحها المكون من حديد صدئ وكأنه جمع من بقايا المباني التي دمرتها قوات التحالف.
التقرير الذي صدر الخميس 25 من نيسان الحالي، يورد أن عملية تدمير الرقة كانت مخططة، ولم تحسب حساب المدنيين وحماية أرواحهم، وممتلكاتهم، فسلاح المدفعية وحده أطلق على المدينة أكثر من ثلاثين ألف قذيفة من عيارات متفرقة وبتأثير كبير لحشواتها المصنعة في أكبر بلدان العالم أمريكا وفرنسا وبريطانيا، وقد سبق لجنرال فرنسي أن صرح للصحافة الفرنسية عن أهوال هذا القصف ضد المدنيين، وتم طي الموضوع ولم يعتبر إرهابًا ولا تحديًا للقيم الإنسانية أبدًا!
التحالف الدولي دمّر المدينة بأحدث الأسلحة وأطلق عليها القذائف والصواريخ من الجو، ومن البحار البعيدة، ومن مرابض المدفعية التي لم تصمت طوال أربعة أشهر وهي تبيد المدنيين، وتدمر المباني، والشوارع، والبنى التحتية الفقيرة، بحجة تحريرها من إرهاب داعش خلال صيف وخريف عام 2017، وقد قام التحالف بالاتفاق مع تنظيم داعش، وتم ترحيله بشكل سلمي، في حين ترك المدنيين في الرقة تحت الأنقاض، وترك المنظمات الإنسانية تتكفل برفع الأنقاض وترميم ما يمكن أن يسهل على من تبقى من الناس حياتهم المطمورة بالأنقاض وبنقص الخدمات وانهيار الاقتصاد ومقومات الحياة الأخرى.
وحتمًا تعج الآن المجلات والصحف ومراكز الأبحاث العسكرية العالمية بصور وميزات القذائف الحديثة وقدراتها التدميرية التي أثبتت جدارتها في الرقة، وقد حوّلت مدينة كان يقطن فيها أكثر من نصف مليون إنسان إلى أنقاض، ناهيك عن عروض أسعار القذائف والصواريخ المستعملة في التدمير، والتي تصل تكلفة بعضها إلى مئات آلاف الدولارات، بينما ترزح الرقة تحت الحاجة، وينتظر أهلها فتح الجسر بورشات بدائية، أو إخراج الجثث من تحت المباني، والتي لا تزال عائلات بكاملها تحتها، حيث لجأت تلك العائلات الى الأقبية، وسكنت بشكل جماعي لتتقاسم المصيبة، ولتواسي بعضها، وقد أورد التقرير مثلًا أن أربع عائلات مكونة من اثنين وثلاثين فردًا تمت إبادتها بالكامل في أحد الأقبية.
العمل الشجاع الذي قام به معدو التقرير تطلّب منهم استعمال أحدث التقنيات والاستعانة بالمتبرعين وبالجامعات في مختلف أنحاء العالم، من أجل توثيق هذا الدمار الذي لم يصب مدينة واحدة بهذه الكثافة، وبهذه التقنيات العسكرية المتطورة في الإبادة الجماعية منذ الحرب العالمية الثانية، وقد رصد هذا التقرير ووثق 1600 جثة، بينما تشير الوقائع على الأرض بأن العدد أكثر من ستة آلاف من أبناء الرقة ومن النازحين اليها، وأن المقابر الجماعية صارت تنتشر في كل أنحاء المدينة المنكوبة.
الدول المشاركة بهذا الدمار تصرّ على سياسة الإنكار، وكذلك ميليشيات البي كي كي وشركاؤها الذين يتنكرون لدورهم الجنائي، ويتذرعون بمحاربة الإرهاب الداعشي، رغم أنهم جميعًا عقدوا صفقة علنية مع داعش، وقد رصدتها كل وكالات الأنباء ونشرت صورها محطة البي بي سي البريطانية وقتها.
يقول التقرير إن قذيفة مدفعية واحدة على الأقل كانت تنفجر في الرقة كل ست دقائق وطوال أربعة أشهر من حزيران حتى أيلول 2017، ناهيك عن الصواريخ والقصف الجوي، ما يجعل العدد قذيفة واحدة كل دقيقة، وطوال أربعة أشهر تحصد المباني والأقبية وتقتل العائلات وتشوه الأجساد، وتدمّر المباني التي بناها أهلها بعرق جبينهم وطوال عشرات السنوات من العمل والحرمان من أجل امتلاك بيت.
لا تزال نتائج القصف والتدمير الدولي ماثلة للعيان وهي تصل إلى 80% من المباني، وتستطيع المنظمات الدولية إعادة رصدها، وتصوير حالة السكان فيها، والمستوى البدائي الذي يعيشون فيه من حيث الخدمات وطرق الترميم.
ولا تزال وزارات الدفاع في دول التحالف تنكر تدميرها للرقة وقتلها للمدنيين، وترفض الإسهام بإعادة إعمارها، وتعويض الأهالي عن الفاجعة التي حلت بهم على أيدي هذا التحالف، فتلك الوزارات لا تزال تدفع ملايين الدولارات أثمان القذائف والصواريخ، ولا تزال مراكز أبحاثها تدرس فعالية القذائف وجدوى إطلاقها، والمدى الذي تمكنت من الوصول إليه في اختراق الأقبية، وقتل الناس، ولا يزال الخبراء يأخذون القياسات على الأرض من أجل رصد الواقع التفجيري وزيادة فعالية الأجيال الجديدة من تلك القذائف، بينما يجمع الناس في الرقة الحديد الصدئ من بقايا المباني من أجل ترميم جسر، علمًا أن القذائف والصواريخ التي دمرت الجسر تعادل تكلفتها موازنة بناء أربعة جسور، وبطرق حديثة وبتكنولوجيا متطورة بدلًا من هذه الطرق البدائية.
الرقة اليوم مدينة تفقد أهلها وتفقد جهود مئة سنة من عمل أبنائها، ومعرضة لفقدان هويتها على أيدي ميليشيات تتلاعب بهوية المدينة، حيث لا تزال ترفض حتى إصدار بيان يعلن مصير المفقودين، بينما تطالب أهالي الرقة بالتظاهر في دوار النعيم للإفراج عن عبد الله أوجلان في تركيا، ومع كامل احترامنا لحرية كل معتقل ومسجون، فإن مفقودينا لهم أمهات وعائلات تنتظر عودتهم أيضًا!