خطيب بدلة
كنت أحكي لصديقي “أبو حَميد” عن المحلل السياسي الاستراتيجي “قاف” الذي يظهر بشكل متواتر على إحدى القنوات التلفزيونية العربية، ويدافع عن جبهة النصرة معتبرًا إياها مشروعًا وطنيًا حضاريًا.
قلت إن مقابلات “قاف” كلها كانت تمر على خير، لأن هذه القناة التلفزيونية ذات توجه إخواني، وبين الإخوان المسلمين وجبهة النصرة وحدة حال، ولكن الحظ عانده في مقابلة مع قناة أخرى، حينما استفزه المذيع قائلًا إن جبهة النصرة نفسها ترفض الفكرة الوطنية، وتعتبرها من مخلفات الماسونية العالمية، ولا تتعاطى مع “الحضارة” لارتباطها بالعَلمانية، والعلمانية كفر صريح، وترفض الديمقراطية، كذلك، لأنها دين الغرب.. وعندما انتهى المذيع من مداخلته انسطلَ صاحبُنا “قاف”، و(تعا تفرج) عليه كيف صار يرغي، ويزبد، ويتفتف، ويأتي بجملة من الشرق، وحديث من الغرب، ويُجهد نفسه في تقديم توليفة سردية إنشائية خطابية بائسة ليدعم الفكرة الثابتة في ذهنه عن روعة معشوقته جبهة النصرة، ووطنيتها، وحضاريتها، فما زادته هذه المحاولات إلا ارتباكًا وتفتفة.
توقف “أبو حَميد” عند مصطلح “تعا تفرج” الذي ورد في حديثي أعلاه، وقال إنني مولع به، والدليل أنني أكتب زاوية أسبوعية في صحيفة عنب بلدي تحت هذا العنوان. قلت له إن هذا الكلام صحيح، والعبارة، لعلمك، مأخوذة عن لعبة شعبية قديمة كان أهلُ الشام يسمونها صندوق الدنيا، وفي المناطق الشمالية أطلقوا عليها اسم “عجايبًا غرايبًا”، وهي لعبة شبيهة بالسينما البدائية، حيث توصل مجموعة من صور المجلات الملونة على شكل شريط يوضع داخل الصندوق، وثمة رجل يقف قربه ويصيح: تعا تفرج يا سلام.. وعندئذ يأتي الأطفال ويدفعون له بعض الفرنكات، فيسمح لهم بالفرجة على الشريط الذي يحركه يدويًا من خلال فتحات مزودة بعدسات مكبرة، فيشعر الطفل وكأنه يتفرج على السينما.
وقلت إن المحلل السياسي الاستراتيجي النصراوي “قاف” رجل يستحق الفرجة مثل الـ “عجايبًا غرايبًا”، والفرجة على “الضبع والضبعة” في بازار بلدة معرتمصرين أيام زمان، حيث كان الرجل الملقب “الطَفَّاش” يقف عند باب دكانة تغطيها قطعة من النايلون رُسمت عليها صورة للضبع وعقيلته الضبعة وهما مكشران عن أنيابهما القاطعة، ويصيح: تعا تفرج يا سلام عالضبع الكاسر عدو الإنسانية.
قال أبو حميد: عندي سؤال قد لا يكون له علاقة مباشرة بموضوع المحلل الاستراتيجي قاف. هذا الرجل الملقب “الطفاش”، من أين يأتي بالضبع والضبعة؟
قلت: بالعكس، سؤالك يدخل في لب الموضوع، فالطَفَّاش يصطاد الضباع بطريقة تكاد أن تخلو من الشفقة وهي أنه يذهب إلى الطرف الخلفي من وكر الضباع، ويُشعل خرقة ملوثة بالمازوت، ويتركها تدخّن، والدخان الكثيف المحمل بروائح احتراق المازوت يجبر الضبع وعقيلته على الخروج من الباب الرئيسي، ليجدا نفسيهما ضمن قفص جهزه الطفاش خصيصًا لاصطيادهما.
وأما عن علاقة هذه العملية بالمحلل الاستراتيجي قاف، فلعلمك أن قاف كان قبل الثورة من رواد ثلاثة أماكن رئيسية هي الخمارة والمقمرة والماخور، وكان إذا دخل إليها فإن الطفاش الذي يخرج الضباع من أوكارها نفسه لا يقدر على إخراجه، حتى ولو أعماه بالدخان. فتأملْ!