الرائحة، شيء لا يسترعي انتباهنا دائمًا، إلا أنها موجودة ومؤثرة فعلًا، برغم أنها غالبًا ما تكون خفية ولا نشعر بوجودها إلا حين تكون نفاذة جدًا. وبرغم شدة نفاذيتها التي قد تكون قاتلة في بعض الأحيان، إلا أن هناك من يستطيع -بل ويريد- أن يسد أنفه، وفوقها أن يصم أذنيه، ويعمي عينيه؛ يعني بالمختصر: يعطل حواسه البشرية كلها، هو لا يدري بذلك أنه يفقد إنسانيته، ربما يدري، وربما لا يدري.
الأكيد أن الذي لا يشم الرائحة القاتلة لآلاف البشر، ولا يسمع صرخات الألم لمئات الآلاف منهم، ولا يريد أن يرى أجساد مئات الآلاف الآخرين وقد تحولت إلى صور مرقمة في متحف؛ هو شخص لا يرغب في أن يعمل حواسه الإنسانية، هو ليس ولن يكون إنسانًا حتى لو تشدق بحقوق الإنسان صباح مساء.
فالرائحة: رائحة الكذب هذه المرة تفوح من كل كلماته وأفعاله، وقد أصبحت أنفذ حتى من رائحة غاز الكلور والسارين القاتلة؛ فرائحة الغازات السامة تشمل منطقة محدودة جغرافيًا، أما الأقوى والأنفذ فهي رائحة الكذب التي تفوح في أرجاء المعمورة.
مجلس الأمن يهزه مقتل عدد من الأفراد تطاولوا على النبي في باريس، والغرض قمع كل أتباع ذلك النبي بجريرة جريمة لم يقترفوها حتى ولو كانوا بالملايين. أما مقتل الملايين فهو أمر لا يستدعي تدخل مجلس الأمن، واصطفاف زعماء العالم في وجه ذلك الإرهاب العظيم الذي قتل أفرادًا معدودين غير معدودين.
أما عن ذبح وخنق واغتصاب وتهجير الملايين وتغيير التركيبة السكانية لدول بأكملها، فهو أمر ليس بحاجة لإراقة بعض من الحبر حتى في سبيله، فالحواس الخمس هنا مطموسة ولذلك فالرائحة النتنة للكذب أصبحت تخنق البشرية جمعاء.
المشكلة أن النوايا عندنا أيضا لها رائحة، والمشكلة الأكبر أنها قد تكون كاذبة أيضًا مثل كذب غيرها. فالشعارات الرنانة عند تجار الدين والثورة تفلح في خلق رائحة مقبولة كبداية، لا تلبث أن تتحول إلى رائحة في غاية الشناعة؛ حين تتساقط الأقنعة التي تخفي خلفها عفونة الأفكار، واستغلال البشر، وتحويلهم لسلالم للتسلق الشخصي، على ظهور وتضحيات الشباب المخلص لقضايا وطنه وثورته.
يشبهون كثيرًا مديرة دار الأيتام الشريرة، يراها الناس من الخارج ترعى هؤلاء الأيتام وتؤويهم، بينما هي في الحقيقة تستغلهم وتستعبدهم وتسومهم سوء العذاب، بل وتجبرهم على العمل في ظروف لاإنسانية، وباسم الإنسانية.
مسكينة أنت يا سالي! ومسكين هذا الشعب الذي هو في قمة بؤسه واحتياجه، والعالم عن مأساته سالِ.
حتى أنتم تفوح رائحة الخيانة من أفواهكم، فلا تزيدونا من كلماتكم الكذابة، فقد اختنقنا من متاجرتكم بالله وبالدين وبالوطن وبالثورة. تقولون أنكم تعملون لله وللثورة، ثم تنهبون وتستغلون وتبتزون البشر، والله والثورة بريئون منكم ومن أفعالكم القذرة.
يقولون: إن رائحة الصدق لا تخفى على أحد، فالنوايا الطيبة تصل القلب مباشرة. ليتنا نستطيع أن نصدق أن هناك نوايا طيبة حقيقية ولو في قليل من البشر؟ ليتنا نستطيع أن نستمتع فعلًا بعطاء دون مقابل، بعطاء من أجل الخير وليس ابتغاء منفعة أو مصلحة.
صدقنا وآمنا بثورة حقيقية بكل نقاء وطهر، وقد كانت الأرواح ترفرف في العلالي تطلب الحرية والعدل لكل السوريين. نعم كانت رائحة الحرية العبقة تعطر تراب سوريا الذي تعمد بدم الشهداء الزكي، والذي استخدمه الاستغلاليون ليغطوا على روائح كذبهم ونفاقهم النتنة.
لم يدم تأثير الرائحة العطرة طويلًا، فرائحتهم الأصلية القذرة كانت أكثر نفاذًا، وقد خنقت البلاد بأسرها، إلا قليلًا من الجزر المنعزلة المكافحة عكس التيار لتحافظ على استقامتها وإخلاصها وطهرها وصمودها.
فمتى؟ متى نستطيع أن نتخلص من مصادر هذه الرائحة ونقضي عليها، لننعم بوطننا الطاهر العطر وثورتنا النقية بدون كل أولئك الفاسدين المفسدين؟ متى نتخلص منهم لنبدأ انتفاضة ثانية حقيقية، وليست ضحكًا على اللحى وتبويسًا للذقون؟
متى تتحول نقاط الضوء الجميلة المتفرقة المكافحة ضد العفونة والفساد إلى بقعة ضوء واحدة كبيرة، تجعلنا نستنشق فعلًا عبير الأمل والنقاء والثورة الحقيقية على كل أشكال الظلم من جديد؟ متى؟