يارا جلال | برنامج “مارِس” التدريبي
بعد أن أحضرت إبريق الشاي وطبقًا من الحلوى المشهورة عند الكرد “الكِليجَة”، كما يطلقون عليها في الجزيرة السورية، تحدثت شيلان بلكنتها الشامية عن حي ركن الدين الدمشقي، قلعة الكرد “المشوّمين”، المتمازجين بالبيئة الشامية، “لا تكاد تجد فروقًا.. هم شوام بامتياز”.
شيلان البوطي (32 سنة)، شابة سورية من كرد دمشق، والدها من “المشوّمين”، الصفة التي يطلقها الكرد السوريون على أبناء جلدتهم في الشام، بينما تنحدر والدتها من مدينة عامودا التي تنتمي لكرد الشمال.
حي ركن الدين الممتد على طول السفح الجنوبي لجبل قاسيون المطل على العاصمة دمشق، تقطنه غالبية كردية، اندمجت في المجتمع الدمشقي وتأثرت بعاداته وتقاليده وحتى في طريقة اللباس، “من النادر أن تجد أحدهم يرتدي الزي الكردي، إلا كبار السن الذين قدموا مؤخرًا من الجزيرة أو عفرين، ولكن هذا لا يعني أنهم تخلوا عن قوميتهم”، على حد قول شيلان.
يعرف الدمشقيون عائلات كردية عريقة عاشت بين ظهرانيهم منذ مئات السنين، وتبادلوا التأثير وأسهموا في خلق الروح الشامية، كعائلة البوطي وكفتارو وآل رشي وأوسو والأيوبي وأومري، على سبيل المثال لا الحصر، ولكنهم نسوا اللغة الكردية إلا بعض الألفاظ العالقة في الأذهان من أحاديث الآباء والأجداد، على خلاف الكرد المقيمين في الشمال السوري (القامشلي وما حولها في ريف الحسكة، وعين العرب “كوباني” وعفرين في ريف حلب)، الذين يحتفظون بلغتهم الأم ويتحدثون بها كلغة أساسية، الأمر الذي ميزهم في محيطهم العربي وباقي الإثنيات في محافظات الشمال، وساعدهم على الحفاظ على هويتهم.
ألف عام
من غير المعروف، على وجه الدقة، متى بدأت الهجرات الكردية إلى دمشق، لكن الباحثين المعاصرين يربطون تاريخ الكرد في بلاد الشام بالحقبة الأيوبية، في القرن الثاني عشر بعد الميلاد.
دخل الكرد بلاد الشام بهيئة جنود محاربين في جيوش الدول الإسلامية، أو محررين في حروب الفرنجة، أو علماء دين وولاة في العهدين المملوكي والعثماني.
ويذكر المؤرخ عز الدين علي ملا، في كتابه “حي الأكراد في مدينة دمشق”، أن أوسع هجرة كردية باتجاه دمشق كانت في عهد شيركوه الذي قدم إلى بلاد الشام واستقر في العاصمة دمشق في حي الأكراد (ركن الدين) حاليًا.
لا يزال يحتفظ الحي باسمه “حي الأكراد” على الرغم من تسميته حديثًا باسم “ركن الدين” نسبةً إلى أحد ولاة دمشق في العصر الأيوبي، المدفون في ضريح بساحة “شمدين”.
ويتميز الحي بأبنيته المتراكبة فوق بعضها كأنها تتسلق قاسيون، وبمساجده وأضرحة الصالحين (جامع أبو النور)، ومن حاراته الوانلي والكيكية والميقري، وأشهر ساحاته شمدين والميسات.
لا زي كردي في ركن الدين
تابعت شيلان حديثها وهي تقلب صورًا قديمة لها على شاشة هاتفها المحمول، تبدو فيها مرتدية الزي الكردي، إحداها كانت في حفلة عرس وأخرى كانت في عيد النوروز، “لا أذكر أنني ارتديت الفستان الكردي سوى في هاتين المناسبتين في أثناء زيارتي لأحد الأقارب في عامودا، التي كنا نزورها في المناسبات العائلية في الأفراح والعزاء”.
وتقول شيلان، “لا يختلف لباس المشومات عن محيطهن الشامي ولا تكاد تميزه، على عكس كرد الشمال، ولكني أتذكر جدتي دائمًا بلباسها الكردي، كانت لا تستبدله مطلقًا، حتى بعد أن قدمت إلى دمشق بقيت محافظة على زيها التقليدي بفستانها الطويل والمحدد بحزام يربط تحت الصدر ويسمي بالكردية (الكمر) مع غطاء للرأس له أسماء عدة هي (كلاو) أو (هربي)”.
وتتميز ملابس النساء الكرديات التقليدية ببريقها ولمعانها وألوانها الصارخة، وطبيعة الأقمشة التي تجعل الزي الكردي النسوي فريدًا من نوعه بين جميع الأزياء الشعبية الأخرى المعروفة في سوريا، ووصلت شهرته عالميًا.
نوروز بين دمشق والجزيرة
في أثناء عرضها لذكرياتها المخزنة في هاتفها المحمول فتحت مقطع فيديو قديمًا صوّر خلال زيارتها الأخيرة للحسكة في عيد النوروز، أكدت شيلان أنها المرة الوحيدة التي احتفلت فيها بـ “النوروز”، العيد القومي للكرد في جميع أنحاء العالم ويعتبرونه رأس السنة الكردية، إلا أن “الكرد المشومين” لا يكترثون لأمره.
وتقول شيلان، “ذلك العيد في الحسكة كان مختلفًا، كان أشبه بكرنفال فلكلوري على خلاف احتفالات كرد الشام”.
وتضيف، “بينما في دمشق القلة فقط يحتفلون به بسبب تضييق النظام السوري عليهم وتخوف الأمن دائمًا من التجمعات الكردية ومن هذه الطقوس، وبعض العائلات المشومة كعائلة أبي لا يحتفلون بهذا العيد وإن احتفلوا فعلى نطاق ضيق وداخل المنزل”.
وتتابع، “كنت دائمًا أسمع أن رجال العائلة من أقرباء أمي الذي قدموا إلى دمشق يجهزون للاحتفال في النوروز في حي ركن الدين، وحي زور آفا (حي عشوائي معروف باسم وادي المشاريع شمال غرب دمشق) وسط تخوف العائلة من المجاهرة أمام الجيران، وكانوا غالبًا يتجمعون مع أصدقائهم في أحد المنتزهات”.
أمي لم تكن “سوريّة”
يعيش الكرد “المشوّمون” حياتهم كما بقية السوريين من دون منغصات قومية، فهم منخرطون، مؤثرون ومتأثرون بمحيطهم، إلا أن هذا ليس حال كرد الشمال، الذين يعانون من التهميش وبعضهم إلى الآن محرومون من الجنسية، يسميهم الشارع السوري بـاسم” المكتومين”، ويعرّفهم القانون بـ “الأجانب”.
أم شيلان حصلت على الجنسية أخيرًا، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عامًا على زواجها وإقامتها في دمشق، بعدما كانت تحمل بطاقة أجنبي لأنها من “المكتومين”، على خلاف زوجها الدمشقي فهو مواطن سوري، الذي “أورثنا أنا وإخوتي اعتراف الدولة السورية بنا كمواطنين لا كأجانب”، تقول شيلان.
وتختم شيلان الشابة الدمشقية، “بقيت أمي على ذلك الحال إلى أن صدر المرسوم 49 بعد الثورة السورية بمنح الأكراد الأجانب، أي كرد الجزيرة، الجنسية وبطاقة الهوية”.