محمود الزعبي
تمضي الثورة السورية الطريق بخطا ثابتة أمام حالة فكرية تقدمية من نوع جديد لن تقتصر جغرافيتها على الحدود السورية وإنما ستتعداها لتشكل جزءًا لا يتجزأ من الإرث الفكري الإنساني ليس بالمعنى النظري فحسب وإنما بالمعنى العملي أيضًا، بعد أن دخلت الأدبيات الكلاسيكية الثورية مرحلة من الجمود التي تدفع الشعوب أثمانًا باهظة لها وبعد أن بدا الحراك الاجتماعي وكأنه عاجز عن تجاوز مفاصل حيوية في حياة الشعوب. يمضي متخليا عن تلك الكلاسيكيات لأنها باتت منذ زمن بعيد حبيسة الأدراج والكتب بعد أن تعرضت لأكبر عملية سطو في التاريخ على أيدي إنتهازيين يدعون أنهم ورثة الفكر الإنساني.
الثورة السورية التي أتت بلا عناوين عريضة مسبقة ولا خطط ثورية محكمة ولا مقولات معلبة أو جاهزة، فتلك المخرجات أتت بمقولاتها حسب مجرى تطور الأحداث في كل حالة على حدة، مثلما غابت المدارس الثورية عن هذا المشهد، ما يوحي بأن ثقافة التمرد ترفض التجديد بطبيعتها ولا تحتاج إلى معلمين، فالواقع هو المعلم الأكبر والوجع لا يحتمل التنظير والحاجة إلى التغيير تفرض نفسها حتى في مملكة الطبيعة.
سنة ونصف من ثورتنا، مدن ملطخة بدماء شهدائها، مدن أخرى مدمرة تدميرًا شبه كامل، عدد الشهداء يخجل المرء من ذكره، حتى لا يقال عنا إننا متوحشون، حتى لو كان حكامنا القادمون من عصور ما قبل التاريخ فنحن نخجل عنهم، وعن سفكهم لدمائنا بتلك الطريقة المهينة والمشينة والحيوانية. هم أكلة لحوم بشر تعايشنا معهم أكثر من أربعين عاما، لم نكن معهم ولكنا ساكنين تحت سلطتهم. خائفين من سطوتهم، متفرجين على ما يسرقون وينهبون من أموال البلاد دون من أحد يردعهم. أو يقف في وجههم حتى بدأ أطفال درعا لعبتهم الدموية دون أن يفكروا للحظة أن ما فعلوه في ذلك اليوم سيكون نقطة تحول في تاريخ سوريا لا يمكن التراجع عنه.
مفجوعون نحن السوريون، مفجوعون أهلنا من الشعوب العربية، مفجوعون أصدقاؤنا من الشعوب الغربية، ولكننا فخورون بصمودنا بوقوفنا بوجه آلة عسكرية صممت لتحارب عدوًا يملك أسلحة تشبه آلتنا العسكرية، لم نكن نظن يوما بأن هذا السلاح سيستخدم ضدنا، لم نكن نتصور أنه سيدك مدننا العزيزة على قلوبنا بالسلاح الذي دفعنا ثمنه من قوت يومنا. فتختلط الحجارة بالدماء الطاهرة، ليستطيعوا الحفاظ على أموالهم التي كدسوها في كل دول العالم. ليشتروا الجواهر لمحظياتهم، والسيارات لأولادهم الذين لم يتجاوزا سن البلوغ بعد. من دماء أطفالنا، ليشتروا الرجال الذين يحمونهم، والنساء الذين يضاجعونهن، تحت أصوات قصف المدن، مستمتعين بقوة لا يملكونها، ولكن يدعون أنهم يملكونها.
تغيظهم شجاعة فتيان الحرية، فيزيدون القتل، يعجزون عن كم أفواه الأطفال يهتفون بالحرية، فيمثلون بجثثهم، متشفين من قوتهم التي تريهم ضعفهم وجبنهم وقذارتهم، ويدمرون بيوتهم بآلاتهم العسكرية وطائراتهم . جميلون هم أطفال بلادي يضحون بدمائهم في سبيل الحرية، وقبيح هو جيش حافظ الأسد الذي يختفي حفاظا على حياته خلف آلته العسكرية.
ولكن هيهات ….. في صباح سوري قريب سوف يستيقظ الشهداء فجرًا ليتوضؤوا بماء الورد.. ويزحفوا إلى العيد الذي رسموه.. وستنهض سوريا المحكومة بهتاف الفتيان: الموت ولا المذلة. من درعا إلى دير الزور لتستقبل الشهداء. وتمسح بالغار آثار الجراح على أجسادهم.. وتنهض القرى وتنهض المدن من تحت الدمار ويطير في سماء البلاد حمام البلاد .. وتربت الأمهات السوريات والآباء على أكتاف الشهداء.. تحبس دمعتها وتزغرد صفحات كتاب التاريخ المدرسي وتعيد ترتيب الحكاية وتعيد تسمية الرجال.. وتطبع سوريا على جباههم قبلتها ثم تعيد تشييعهم بما يليق من رقصات الحزن السوري..