نبيل محمد
معمل الأيقونات على الساحة السورية، لم يغب منذ عشرات السنوات، الفارق الوحيد الذي أسست له الأعوام الثمانية الماضية، هو دخول أيادٍ جديدة في هذه الصناعة، وخروج ماكينة القوالب وطرح المنتج الأيقوني النهائي من أيدي المؤسسة الرسمية السورية، وظلالها على الأرض، وامتلاك أفراد ومؤسسات جديدة أحقية في طرح الاسم ونحته وتشذيبه ورسمه وتقديمه على شكل أيقونة. ليست فقط المؤسسات الإعلامية التي “تؤيقن” الأفراد حاضرة اليوم، بل هي أصابع فنانين أيضًا، تصنع نواويس كالتي صنعها الفنان السوري المعروف نزار صابور، عليها صور شخصيات انتقاها لتكون أيقوناته التي يقدمها في معرض سوري في المركز الوطني للفنون البصرية بدمشق، منطلقًا من أن الناووس كان قبرًا يحمل صورة صاحبه ليحوّله إلى أيقونة، حيث “الروح ستخرج يوم البعث فتتعرف إلى صاحبها” وفق تبرير الفنان.
56 شخصية ثقافية سورية انتقاها صابور، ليؤمّن لمن ما زال على قيد الحياة منها لحظة قداسة شخصية، فهؤلاء الأشخاص وفق صابور “قديسو هذا الزمن”، انتقاهم وفق ما يظهر من أسمائهم بطريقة تنتمي لاختياراته الشخصية، ومن الواضح أنها تنتمي لاختيارات المؤسسة الرسمية السورية، التي لا مشكلة لديها بتقديس هذه الأسماء بالذات، فمن مات مات ولن يعلو صوته مجددًا ليخرج عن مقاسات النظام السوري للقداسة، ومن ما زال على قيد الحياة هو ممن ينالون رضا هذه المؤسسة، أو على الأقل لم يقطعوا شعرة معاوية معها، وبالتالي يحق لهم من منطق الدولة التي تحارب الإرهاب، ومن منطق نزار صابور نفسه أن يُمنحوا لقب قديسين. لقب كل ما أنتجته المرحلة السابقة داخل سوريا أنها أعطته بعض المرونة ليستوعب شخصيات يمكن إضافتها إلى القديسين القدماء.
تخلو الأيقونات المصنوعة في دمشق، كما هو متوقع لها، من أي أثر لأي شخصية عامة مرفوضة كليًا من قبل النظام السياسي، وربما ورود شخصيات عرفت بموقف معارض للنظام جدلًا، إنما جاء كتخفيف من حدة صرامة انتماء غالبية الشخصيات (الحية) للمؤسسة الرسمية الثقافية السورية، وإنما كان لأولئك “المعارضين” وقع غير مرفوض بشكل تام لدى هذه المؤسسة، فعلى الأقل متاح لهم الحضور في دمشق بصالاتها، وبأروقتها الفنية. هم معارضة وطنية إن كان هذا التوصيف بالفعل مقبولًا لدى النظام السوري أصلًا.
بعض هذه الأيقونات، هم موظفون أجادوا في الدفاع عن النظام لا أكثر، كتّاب قدموا أعمالًا لم يسمع بها أحد. ولكن ما الضير من أن يكونوا أيقونات على أرض الشام، طالما ماكينة صناعة الأيقونات توزع ما شاءت وزارة الإعلام أو الثقافة أو فرع المخابرات الجوية، بأكف مهرة في هذه الصناعة كنزار صابور مثلًا.
على الطرف الآخر خلف الحدود، قد لا يتوفر نزار صابور شخصيًا لنحت النواويس وكتابة أشعار أصحابها عليها، إنما له الكثير من المرادفات التي تتخذ تقنيات أخرى لتشذيب الشخصيات وتخليدها، فتفتح الأبواب لشخصيات قدرت بشكل مصادف أو منظم أن تتبوأ مكانة معينة لدى هذه تلك الدولة أو الشركة أو المنظمة، لتصنع هي أيقوناتها، فتضع نفسها في المقدمة وتنتقي من الأصوات حولها ما علا، فتدرجه كأيقونة، فنرى ما رسمه نزار صابور ثقافة عابرةً لحدود الخصومة السياسية والأقطاب. وندير ظهرنا للخلف بحثًا عن أيقونة حقيقية، ذلك أن صناعة الأيقونات المستمرة أوحت لنا أن وجود الأيقونة هو حالة مفروضة بحكم الطبيعة، إذ لا يمكن أن لا تكون هناك أيقونة أصلًا.. فنبحث عن أيقوناتنا لنجدها قد مسحت بآلة الحرب، أو بجلطة قلبية غير مفاجئة، فنلجأ نحن الذين لا أيقونة حية لنا إلى كتب التاريخ لنصارع نواويسها الجاثمة على صدورنا منذ عقود، ونحاول أن نجد أيقونة معينة يمكننا على الأقل قراءة جملة واحدة لها وتبنيها.