عندما انطلقت الثورة السورية ضد الفساد والظلم الذي يحكم البلاد، تدفقت أموال السوريين في الخارج وكذلك المنظمات الداعمة من أنحاء العالم لدعم الثورة وتطوير كوادرها، لكن شكوكًا تدور حول هدر هذه الأموال أو اختلاسها بطرق مختلفة من قبل منظمات المجتمع المدني أو المؤسسات السياسية والإعلامية الناشئة حديثًا، دون فائدة كبيرة تصل للمستهدفين منها.
ولتقصي الحقائق حول الموضوع أجرت عنب بلدي مقابلاتٍ مع عددٍ من الناشطين والعاملين في المنظمات غير الربحية والمتخصصين بتدريب الناشطين والإعلاميين السوريين.
منظمات غير ناضجة
دياب سريّة، مدير برامج العدالة الانتقالية في منظمة اليوم التالي، يلقي اللوم بالدرجة الأولى في تبديد أموال الثورة على المؤسسات السياسية التي مثلتها، «الحكومة المؤقتة والائتلاف ووحدة تنسيق الدعم يلامون بالدرجة الأولى على ترسيخ فكرة الشحادة»، بحسب تعبيره. مضيفًا «لا أنكر أن هناك توجهًا سياسيًا لا يريد لنا أن نعتمد على أنفسنا، وكل داعمٍ يملي شروطه، لكن يجب على هذه الكيانات أن تتقن اللعبة السياسية لتوظف هذه الأموال لمصلحتنا»، معقبًا «للأسف لم تكرس مؤسسات المعارضة أبدًا توجهها نحو المشاريع التنموية، واستسلمت لطلب المال باستمرار، وفي الوقت الذي كانت قادرة على إنشاء مشاريع لم تفعل».
وبينما يتكوّن جوّ عام في سوريا حول دور منظمات المجتمع المدني المؤسسة خلال الثورة في تبديد هذه الأموال، يوضح سريّة أن «منظمات المجتمع المدني خدمت الثورة بشكل كبير، ولو أنه يؤخذ عليها عدم بلورة نفسها والبدء بمشاريع تنموية، إلا أنها حملت أعباء فوق طاقتها ولم تكن قادرة ومؤهلة على امتصاص البطالة» الناتجة عن تعطل القطاع الاقتصادي والصناعي في سوريا. ويضاف إلى ذلك غياب الخبرة عن هذه المنظمات في تحديد احتياجاتها، كونها كانت ممنوعة في سوريا قبل الثورة من قبل نظام الأسد.
وفي دراسة بحثيّة أعدّها «مركز سوريا للبحوث والدراسات» في آذار 2014، ظهر جليًّا «عدم وضوح العلاقة بين السياسة ومنظمات المجتمع المدني، وأن هناك حاجة ماسة وضرورية إلى إيجاد أدوار جديدة ومحددة لهذه المنظمات» ما يؤكد كلام سريّة.
رواتب «خيالية»
وفي السياق، أنشئت بعض منظمات المجتمع المدني التي لعبت دورًا سلبيًا وشوّهت صورة العاملين في هذا المجال، كما يوضح سريّة «أوائل عام 2012 وحتى منتصف 2013 ظهرت أعداد كبيرة من المنظمات المدنية لدعم الثورة، وصلت إلى 3 آلاف منظمة».
وعرفت في هذا الوقت «منظمات الـ 4 آلاف دولار»، التي تصرف رواتب كبيرة لموظفيها وامتصت أغلب الدعم المقدم للثورة السورية وبددتها بسبب فسادها الإداري.
لكن من غير الإنصاف التعميم، إذ نشأت منظمات «تفانت في خدمة الثورة» في المقابل، وأثبتت جدارتها على الأرض، وهي موجودة إلى الآن، بينما تلاشت المنظمات «الفاسدة» أو غير الفاعلة، وفق سريّة.
كما أن هناك مبررًا لتفاوت الرواتب بين الداخل السوري والمقيمين في تركيا وفقًا للفارق المعيشي بين الدولتين، حافظت غالبية المنظمات المدنية على التوازن بين الجانبين، بينما أجحفت بعضها حقوق الناشطين في الداخل مقارنة مع الموظفين خارج سوريا، ما دفعهم للهجرة واعتزال نشاطهم أو البحث عن وظيفة براتب «يؤمن مستقبلهم».
عشوائية في التنظيم
ولم تكن رواتب المنظمات الطريقة الوحيدة لتبديد الأموال، وإنما الدورات التدريبية التي كانت أجرتها بعض المنظمات المدنية والإعلامية تتحمل أيضًا جزءًا من هدر «أموال الثورة».
وعلى سبيل المثال ينقل الناشط ريان ريان، وهو عضو في مجلس بستان القصر، قصة دورة «تنظيم هيكليات إدارية» التي أقامتها إحدى الجمعيات الأمريكية في مدينة عنتاب بالقول «كنا 20 متدربًا نمثل أحياء حلب، وأعطوا لكل واحدٍ منا جهاز نت فضائي، جهازي لابتوب، هارد، فلاشة، ومبلغًا قدره 433 دولارًا».
ومع أن المعدّات تذهب لدعم هذه المجالس وتطوير عملها، إلا أن التدريب العملي لم ينجح في الوصول إلى الهدف من الدورة، إذ كان من المقرر أن يجتمع المتدربون بقيادات عسكرية للتنسيق معهم، لكن من حضر إعلاميّون غير فاعلين على الأض، وفشل اللقاء، كما يقول ريان.
وفي السياق لفت أبو سلمى، رئيس مجلس مدينة حلب، إلى دورات متقاربة من حيث المضمون تجرى في الداخل، «لدينا كوادر قادرة على التدريب في كل أمور الإدارة المحلية، ولم تتجاوز تكلفة دورة تنظيم هيكلية إدارية ألف دولار»، كما تتميز هذه الدورات بانتقاء المختصين من المتدربين في ساحة العمل، خصوصًا وأنهم يواجهون صعوبة في الدخول والخروج من سوريا.
تلاعب في الكلف التشغيلية
وتعتمد المنظمات في تمويلها على تبرعات المواطنين الأوروبيين أو تمويل الحكومات، لكن الفائدة المالية التي تجنيها المنظمات من الدورات تكمن في قيمة الكلف التشغيلية لها.
ويقول الناشط في مجال المناصرة وتنظيم الحملات، نبيه مستريح، الذي أشرف على تدريب عددٍ من الدورات في هذا الخصوص، «العرف العالمي لهذه الورشات يحدّد الكلف التشغيلية لها بـ 10 بالمئة وقد ترتفع إلى 30 بالمئة من مجمل مصاريف الدورة إذا كانت تتعلق بالتنمية، حيث تعنى براحة المتدربين المتدربين ورفاهيتهم».
لكن هذه الكلفة التشغيلية التي تغطي مصاريف المنظمات وتمكنها من الاستمرار وصلت في بعض الدورات إلى 70 بالمئة من قيمة المشروع خلال السنتين الفائتتين، ما يؤكد تحولّها إلى مدخل للتلاعب وجني الأرباح.
هل رفعت الدورات سوية الناشطين؟
وبعد غياب تام لمنظمات المجتمع المدني خارج إطار الحزب الحاكم، رصد الناشطون السوريون الانتهاكات في سوريا بـ «مهنية»، ويعود ذلك إلى الدورات التدريبية التي شاركوا بها، وفق ناجي الجرف، رئيس تحرير مجلة حنطة ومدير مكتب منظمة «بصمة» في تركيا، والذي أشرف على عدد من الدورات التأهيلية مع منظمات مختلفة.
ويقول الجرف «إننا دائمًا بحاجة إلى تدريب صحافة المواطن والحماية الشخصية للمراسلين، خصوصًا وأن أغلب مناطق سوريا يصعب دخول الصحفيين الأجانب إليها، الأمر الذي ساهم في رفع سوية الإعلاميين السوريين».
ويضيف دياب سريّة معلقًا على دورات الصحافة التي أجرتها بعض صحف الثورة السورية أنها «حوّلت ناشطين ليسوا صاحبي اختصاص، إلى صحفيين باتوا يكتبون في أبرز الصحف العربية والعالمية». بينما تحسّن أداء المجالس المحلية والهيئات الثورية في الداخل السوري، واعتمدت سياسات دولية في تنظيم عملها ومكاتبها، لإدارة المناطق المحررة.
في المقابل، لا ينكر الجرف أن كثيرًا من الدورات التدريبية فشلت، موضحًا أن «السبب الأساسي في الفشل هو تكليف مدربين ليسوا أصحاب اختصاص وربما يدربون بعدة مجالات مختلفة».
ويتحمّل
ويتحمّل الفساد الإداري «المسؤولية الأكبر في تبديد الأموال وهدر الإمكانيات»، بحسب الجرف، مستدلًا بـ «تكليف مدربين أجانب يتقاضون 4 أضعاف المدرب السوري، في الوقت الذي نمتلك فيه كفاءات قادرة على القيام بهذا الدور».
لكنه يردف «تلاشت ظاهرة التبديد وقلت بشكل كبير في أيامنا هذه عما كانت عليه قبل عامين».
وتبقى تجربة مؤسسات المجتمع المدني كغيرها من التجارب الكثيرة في الثورة؛ تخبط كبير وتعثر، أما القلة ممن تجاوزها فقد اعتمدوا على سياسة علميّة منهجية حملها الثائرون الحقيقيون، مثبتين كفاءتهم في حمل العبء الكبير الذي يواجهونه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :