فتح تنظيم «الدولة الإسلامية» وأشباهه الباب على مصراعيه لنقدٍ كان محرمًا من قبل، هو نقد الإسلام بما هو الإسلام، وليس النقد الذي كان يقول إن أفعال المسلمين لا تمثل الإسلام، وإنما بات النقد موجها للإسلام ذاته ونصوصه المقدسة. إذ يقول الناقدون إن تنظيم الدولة يمثل الإسلام، ويكمن الحل للخلاص من هذه التنظيمات «المتوحشة» بالخلاص (أو على الأقل تعديل) الإسلام ذاته «منبع التوحش».
والحقيقة أن هذه التنظيمات قدمت الذريعة على طبق من ذهب لأولئك الراغبين بإقصاء الإسلام، كما قدمت الذرائع الكافية للنخب السياسية التي تعاني انحلالًا قيميًا في العالم العربي، لتقحم هذه التنظيمات في ميدان المزاودات السياسية وإفناء الخصوم، فتم إطلاق التعميمات الرهيبة على الإسلاميين وحصرهم كلهم تحت تصنيف وحيد هو تصنيف داعش، رافعين شعار «الإسلام هو المشكلة» في وجه «الإسلام هو الحل».
ويضاف إلى هذا الهجوم على مستوى النخب السياسية والثقافية في العالم العربي، حديث موازٍ على مستوى الدول عن ضرورة تجفيف «منابع الإرهاب» في الإسلام، كوزير الخارجية الأمريكي، الذي قال إن علينا أن نكافح التطرف حتى في المساجد والمدراس، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حين دعا إلى إحداث ثورة دينية في الإسلام، وهي الدعوة التي احتفت بها مراكز الأفكار (think tank) الإسرائيلية والأمريكية بشكل كبير، واعتبرتها حدثًا هامًا يجب البناء عليه.
غني عن القول إن الدعوات الأمريكية، كما دعوة السيسي، هي دعوات باطل أريد بها باطل، فالرجل لا يقصد بالنصوص الإسلامية المعطلة الواجب إلغاؤها إلا تلك النصوص التي تحض على الثورة عليه، وإن كانت تعاني مصر من الإرهاب فهي لا تعاني منه بسبب تلك النصوص التي يرغب بإزالتها، ولكنها تعاني منه بسبب مئات الشهداء في ميدان رابعة العدوية، وآلاف أحكام الإعدام، وعشرات آلاف المعتقلين زورًا وبهتانًا.
وبالرغم من ذلك كله، فإن هذا لا يجب أن يحجب الرؤية عن ضرورة مراجعة الإسلام وما أتى معه من تراث ضخم مليء بشوائب التاريخ والسياسة، كما أنه من الضروري كذلك مصالحة الإسلام مع عصره، فالإسلام، ومعه المسلمون، يعانون من أزمة عميقة في التعامل مع العصر، وقد ساهمت هذه الأزمة (مع عوامل أخرى) في تمزيق المسلمين بين إسلام يتم تصوير العودة إليه كحل لكل المشكلات التي عرفناها والتي لم نعرفها بعد، والذي يكون الالتزام به من خلال الالتزام بالنصوص والأصول ومنهج «سلف» مات أقربهم إلينا منذ مئات السنين، وبين واقع عالمي مختلف كليًا يغيب المسلمون عن صياغته غيابًا تامًا.
الهرب إلى السلف هو الحل الذي نلجأ إليه حين يقسو علينا الواقع المر، والسلف ليس منزهًا عن الخطأ للدرجة التي أوصلناهم لها، كما أنهم محكومون بظروفهم ومجتمعاتهم، والإنسان المأزوم لن يحصّل من سلفه إلا مزيدًا من الأزمات كذلك، فبعد أن هربنا إلى السلف طاب لنا العيش معهم، وخوض صراعاتهم ونقاشاتهم، ونقل معاركهم إلى الواقع المنكوب أصلًا، لقد بعثناهم من موتهم لنميت بهم الأحياء.
«تحرير» العقل المسلم من سلطة السلف يشكل ضرورة ملحة للانطلاق، والغالب أننا حملنا السلف فوق ما حملوا، وبتنا نستفتيهم ونستشيرهم في قضايا لا يحتاج البت بها إلى أحد. إن العقل الذي ينتظر دليلًا من السلف ليؤمن بقضية الحرية ووجوب مقارعة الظلم هو عقل مأزوم، كما أن العقل الذي يبحث عن دليل ليشرعن فيه السكوت على الظلم هو عقل مأزوم كذلك.
يطالعنا تنظيم الدولة وأشباهه يوميًا بفتاوى تعادي الحريات مستندة على نصوص، وتسحقنا يوميًا أنظمة استبداد ناصبت الحرية العداء، وجندت في سبيل ذلك شيوخًا يحضون الناس على الخنوع استنادًا على نصوص كذلك، وبين هذا وذاك يأتي من يريد أن يثبت الحرية في الإسلام من خلال النصوص، والواقع أن هذا «التراشق» بالنصوص دليل مرض وليس دليل صحة، وهو يعكس استقالة تامة للعقل المسلم حتى يحتاج لرأي غيره إن كان يجب أن يكون حرًا أم لا.
ليست هذه دعوة لإلغاء السلف من قاموسنا، فهذا مطلب عدا عن كونه غير واقعي هو مضر كذلك، ولكنها دعوة للتعامل معهم كبشر يخطئون ويصيبون، لا يلزمنا خطأهم بشيء، كما لا يلزمنا صوابهم بحرفيته كذلك.