منصور العمري
في تطور حاسم مرتبط بعملية العدالة الانتقالية بتونس أصدرت “هيئة الحقيقة والكرامة” تقريرها الختامي في 26 من آذار/مارس 2019، في خمسة أجزاء: عهدة الهيئة، تفكيك منظومة الاستبداد، تفكيك منظومة الفساد، جبر الضرر ورد الاعتبار، وضمانات عدم التكرار. لكن ما هذه الهيئة وكيف نشأت، وما العقبات التي واجهتها حتى استطاعت إصدار هذا التقرير الذي يعتبر توثيقًا لستة عقود مضت.
بعد انتصار ثورة الياسمين في تونس في 14 من كانون الثاني/ يناير 2011، وهروب رئيسها الديكتاتور الفاسد زين الدين بن علي، عقب رفض الجيش أوامره بمواجهة الاحتجاجات، تولّى رئيس مجلس النواب، فؤاد المبزع، الرئاسة حسب الدستور بشكل مؤقت إلى حين إجراء انتخابات رئاسية. توالت الأحداث، وتم اعتقال مقربين من ابن علي ورجالات نظامه، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ووعدت الحكومة الجديدة بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق.
في تشرين الأول/أكتوبر 2011، تم انتخاب المجلس الوطني التأسيسي الذي ضم مكونات سياسية. وضع المجلس دستورًا للبلاد بعد سنتين ونصف من المشاورات والنقاش، ثم بدأ التصويت على الدستور، اعتمادًا على قوانين المجلس التي نصّت على وجوب أن يحظى كل فصل من الدستور بقبول الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس، وبعد ذلك، يجب أن يصوت ثلثا الأعضاء على الدستور كاملًا في اقتراع منفصل. إن تعذر ذلك يعاد التصويت، وفي حال عدم الوصول إلى الثلثين، يُطرح الدستور لاستفتاء شعبي. صوّت 200 من أصل 217 عضوًا في المجلس بنعم وتمت المصادقة على الدستور في 26 من كانون الثاني/يناير 2014.
في 6 من حزيران/يونيو أدى أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة التي أسسها المجلس، اليمين أمام الرئيس المنتخب المنصف المرزوقي.
هيئة الحقيقة والكرامة هي هيئة حكومية مستقلة، مكونة من 15 عضوًا، مهمتها الرئيسية الإشراف على مسار العدالة الانتقالية في إطار الانتقال الديمقراطي في تونس بعد نجاح الثورة التونسية. تتولى الهيئة مهام كشف الحقيقة عن مختلف الانتهاكات والتعذيب والفساد في الفترة بين 1 من تموز/يوليو 1955 إلى 31 من كانون الأول/ديسمبر 2013، ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا لتحقيق المصالحة الوطنية.
أدلى نحو خمسين ألف شخص بشهاداتهم كضحايا، واستمعت هيئة الحقيقة والكرامة إليهم ثم حولت عشرات الملفات إلى القضاء بهدف تسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان. درست الهيئة 62716 ملفًا يتعلق باغتيالات واغتصاب وفساد وسجن قسري. بالمقابل، رفضت الدولة المتهمة بقضايا تعذيب وعنف جنسي، ألف ملف للضحايا.
تعرّض عمل الهيئة للعرقلة من قبل مؤسسات حكومية مثل منعها من الوصول إلى أرشيف الرئاسة ووزارة الداخلية، وتجاهل طلباتها المتكررة في الحصول على معلومات حول هوية عناصر الأمن المتورطين في التعذيب، كما رفضت المحاكم العسكرية تزويد الهيئة بالملفات القضائية المتعلقة بالقضايا التي أحالتها الهيئة للمحاكمة.
من أمثلة إفشال الدولة لعمل الهيئة كانت المحاكمة الأولى التي رفعتها الهيئة في 29 من أيار/مايو 2018، والمتعلقة بالإخفاء القسري لكمال المطماطي الذي اعتقلته الشرطة عام 1991. لم يحضر أي من المتهمين الـ 14 المحاكمة، وعقدت المحكمة ثلاث جلسات أخرى، وكانت تؤجل كل مرة بسبب غياب المتهمين، رغم استدعاءات المحكمة. واجهت محاكمات أخرى نفس العراقيل، ولم تتمكن من إلزام المتهمين بالمثول أمامها لأن أغلبهم تجاهلوا الأوامر الصادرة عنها، والشرطة لم تفعل شيئًا لتنفيذ هذه الأوامر.
من بين توصيات الهيئة في بيانها الختامي:
الإصلاح المؤسسي والقانوني للقضاء والأمن، مثل تعزيز المحاسبة وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب.
حصر صلاحية القضاء العسكري في الجرائم العسكرية التي يرتكبها عسكريون، وتسحب منه كل القضايا التي يوجد فيها متهم أو ضحية من المدنيين.
تعزيز الحريات الإعلامية وحماية العمل الصحفي.
تعويض الضحايا ماديًا ونفسيًا، وغيرها من التوصيات.
كما اتهمت الهيئة الرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، بالمشاركة في التعذيب حين كان وزيرًا للداخلية بين 1965 و1969، وطالبته بالاعتذار من الضحايا باسم الدولة.
أصدرت الهيئة تقريرها الختامي بعد عمل نحو خمس سنوات، فهل ستشهد تونس تنفيذ التوصيات في محاسبة المرتكبين وإصلاح الأمن والقضاء، وتعويض الضحايا، أم أنها ستبقى حبر دمٍ على ورق؟
مصادر
هيئة الحقيقة والكرامة
هيومن رايتس ووتش