يرى كثيرون في تمرد “بشار طلال الأسد” بالقرداحة، مجرد حلقة جديدة، في مسلسل مساعي النظام لإعادة ضبط حاضنته الأقرب إليه، بعد انتفاء الحاجة لإطلاق يدها دون قيود. لكن ترافق هذا التمرد النوعي، نسبياً، مع عوامل ثلاثة متفاقمة، قد يعني أن متانة العلاقة بين الطائفة العلوية، وبين الدائرة الضيقة في قيادة النظام، ستكون موضع تساؤلات، في الفترة القريبة القادمة. والأهم من ذلك، أن حالة “العصبية العلوية” التي أظهرت صلابةً كبيرةً خلال سنوات الصراع الخمس الأولى، قد تكون مرشحة لدرجة ما من الانفكاك والتحلل، بصورة تجعل استمراريتها في المدى الزمني المتوسط، موضع شكوك.
هي ليست المرة الأولى التي تمر فيها الحاضنة الطائفية الأقرب للنظام، بحالة من الصراع، وصولاً إلى نوبات من الاقتتال الداخلي. بل هي، حالة مكررة لتجربة مشابهة في التسعينات، إلا أن الفرق هذه المرة جلّي للغاية، من حيث الكم والنوع. ودخول الصراع الروسي – الإيراني، على المشهد، قد يجعل النتائج مختلفة هذه المرة، حتى لو تم الإجهاز على تمرد القرداحة، بوساطة ما، أو بالقوة.
وقد لا يكون الصراع الروسي – الإيراني، العامل الوحيد الجديد، مقارنة بتجربة التسعينات، حينما عمل باسل الأسد، بدعم من والده على إعادة ضبط ميليشيات أولاد عمومته. هناك عامل آخر، يتعلق باستياء “علوي” تواترت الأنباء عنه، حيال تحالف النظام المتصاعد مع طبقة من التجار ورجال الدين السُنة. ويؤكد تمرد القرداحة، وما رافقه من تسريبات عن تصريحات “بشار طلال الأسد”، ودعم عائلات علوية كبيرة له، صحة ما يُشاع عن عدم رضا معظم العلويين عن نصيبهم من “الكعكة” السورية، بعد كل “التضحيات” التي قدموها في سبيل بقاء نظام الأسد.
ومقارنة بتجربة التسعينات، يبدو أن عامل الاستياء العلوي، بهذا الخصوص، مفهوم. إذ بعيد مواجهة حافظ الأسد، في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، مع الأخوان المسلمين وقوى معارضة سورية، عمل الأسد الأب، بالاعتماد على ابنه الراحل، باسل، على إعادة لجم ميليشيات علوية، من العائلة، وعائلات متصاهرة معها، بعد أن كان قد أتاح انفلاتها شبه الكامل، مقابل الاستعانة بخدماتها ضد معارضيه. لكن الترضية التي حظي بها العلويون بالمجمل، حينها، كانت كبيرة. فهم كانوا يشعرون لأول مرة، في تاريخهم، بأنهم حظوا بمكاسب على صعيد الوظائف بمؤسسات الدولة والجيش والأمن، تفوق حجمهم الديمغرافي في التركيبة السورية، بعشرات المرات. لذلك، لم يكن لجم الميليشيات في أوساطهم، حينها، متزامناً مع استياء لدى الجمهور العلوي، بل على العكس.
أما اليوم، فالحصيلة مختلفة تماماً. كان حجم الخسائر البشرية التي مُني بها العلويون هذه المرة، أضعاف المرة السابقة. فيما كانت المكاسب، في تقديرهم، أقل بكثير مما يستحقون. ورغم أن نظام الأسد جهد في إرضاء حاضنته الشعبية، حتى أن مراقبين أشاروا إلى حالة “علونة” في بعض مؤسسات “الدولة السورية”، عبر توظيف أقارب قتلى النظام، ناهيك عن خصّ مناطق الثقل العلوي باللاذقية وطرطوس برعاية حكومية كبيرة على صعيد الخدمات والدعم المالي، كمثال على ذلك في ملف شراء محاصيل الحمضيات.. إلا أن كل ذلك، لم يُشعر الحاضنة العلوية بأنها حصلت على ما يقابل الخسارة البشرية الجسيمة التي تكبدتها، ناهيك عن مراكمة إرث جديد، أضخم بمرات، مقارنة بالثمانينات، من العداء الكامن مع الأغلبية السُنية. فكانت الحالة المليشياوية، هي مصدر “التسكين” لهم. فهي تتيح لهم الحصول على مكاسب أكبر من تلك المتاحة لهم، حتى لو بطرق غير شرعية. كما أنها تمنحهم هامشاً إضافياً من الشعور بالأمان، حيال المستقبل.
وبخلاف العاملين السابقين، المُستَجَدين، فإن عامل “الميليشياوية”، قديم، ومتكرر. لكنه هذه المرة، أضخم بكثير من المرة السابقة في التسعينات. إذ أن حجم “الانفلاش” الميليشياوي، اليوم، أكبر من قدرة نظام الأسد على إعادة ضبطه، كما يبدو، حتى اللحظة. ويعزز الصراع الروسي – الإيراني، تعقيدات هذا الملف. ففيما تعمل روسيا على قوننة الميليشيات ودمجها ضمن مؤسسات “الدولة” بعد إعادة تأهيلها، تدعم إيران الحالة المليشياوية، التي تخدم مصالحها، وتتوافق مع عقليتها التقليدية في إدارة ساحات تدخلها الخارجية. ويتصارع الحليفان المتنافسان، على كسب أتباع ضمن الحاضنة الشعبية العلوية، كما ظهر جلياً قبل أسابيع، في الصدام الذي حصل بسهل الغاب. الأمر الذي من المرشح أن يمتد إلى ساحات “علوية” أخرى، في الساحل، هذه المرة. ولا يبدو أن القرداحة، مسقط رأس آل الأسد، بمنأى عنه.
وفيما يبتعد الخطر “السُني” مؤقتاً، مع بقائه كامناً على المدى المتوسط والبعيد، ينقسم العلويون حول المكاسب، وحول الحليف الأنسب، “الروسي أم الإيراني؟”، لتصبح “عصبيتهم” التي وحدتهم، معرضة للانفصام، بالتزامن مع عجز رأس النظام ودائرته الضيقة عن استعادة حصرية السلطة والنفوذ في الساحة السورية، بخلاف تجربة التسعينات التي كان خلالها، حافظ الأسد، وأولاده، الخيار الوحيد المتاح، لتمثيل العلويين وقيادتهم.