لن تقف تداعيات الهزيمة التي مني بها تنظيم «داعش» عند أصحاب الفكر الإسلاموي الجهادي، وفي مقدمهم «جبهة فتح الشام» التي بدأت تتحسس رأسها، بل سوف تطال تيارات الإسلام السياسي عموماً، بمن فيهم من يحلو لهم وصف أنفسهم بالاعتدال، كجماعات «الإخوان المسلمين»، ومن دأبوا على توظيف الدين لشل حركة المجتمع في مواجهة الاستبداد، وإضعاف قدراته على تمثل الحداثة والوعي الثقافي والإنساني المعاصر.
أول وجوه الهزيمة، خسارة تيارات الإسلام السياسي أحد مصادر «شرعيتها» حيث مكنها حضور «داعش» واتساع نفوذه من تحصيل قبول لافت بها، كطرف يدعي من داخل البيت الإسلامي مناهضة التطرف والإرهاب، عدا خسارتها عمق المنافع المتبادلة «موضوعياً» بينهما، بفعل قوة الترابط العقائدي، ولا يغير هذه الحقيقة اختلافهما بالمناهج والأساليب، بين من يغلو ويتشدد ويحدوه تعصب ورفض مطلق للآخر، وبين من يتبع أساليب مرنة، ويجاهر شكلاً باحترام الآخر المختلف، لكنه مؤهل لتغيير جلده، حين يشتد عوده ويتمكّن!
وإذ أكدت غالبية تجارب الإسلام السياسي أن جماعاته كانت بمثابة الوعاء العقائدي والاجتماعي لنمو التعصب والتطرف الإسلاموي، أو التربة الخصبة، آيديولوجياً وتنظيماً، لتبلوره وترعرعه، أكدت تالياً أن لهذه الجماعات مصلحة حقيقية في حمايته وتمكينه، بدليل انكشاف دور حكومتي طهران وأنقرة في دعم أصحاب الفكر الجهادي، وما رشح من معلومات عن تواصل ملغوم بين أجهزة أمنية إيرانية ومثلها تركية، مع أهم قادة وكوادر «القاعدة» والتيارات الإسلاموية المتشددة في غير بلد، بدءاً بأفغانستان وانتهاءً بالعراق وسوريا، ناهيكم عما أظهرته التحقيقات عن وجود أداة عسكرية سرية ضاربة يوظفها حزب «النهضة» في تونس لاغتيال خصومه، وعن التواطؤ المتعدد الوجوه بين جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وبعض الفصائل الإرهابية المحسوبة على «القاعدة» في سيناء.
أما الوجه الآخر للهزيمة، فهو سقوط الرهان، دولياً وأميركياً، على دور رئيس للإسلام السياسي في مواجهة التعصب والتطرف؛ حيث شهدنا بعد أحداث سبتمبر (أيلول) 2001 مرحلة من تركيز جهود واشنطن وبعض العواصم الأوروبية، على تقوية جماعات «الإخوان المسلمين» وما شابهها في المجتمعات العربية، باعتبارها حصاناً رابحاً في الحرب ضد الإرهاب الجهادي ولاختراق العالمين العربي والإسلامي وتخفيف عداء شعوبها لهم، وبادروا إلى فتح قنوات متنوعة لتوفير أشكال من المساعدة السياسية والمادية لها، ولتمكين حضورها في حراك الربيع العربي، وتعزيز وصول بعضها إلى السلطة.
لكن، من حسن حظ مجتمعاتنا، انفضاح وتعرية الدور الحقيقي لغالبية تيارات الإسلام السياسي عندما تلكأت في إعلان موقف واضح وحاسم من «الدولة الداعشية»؛ حيث لف بعضها صمت مريب، ومال بعضها صوب المواربة والغموض، واكتفى آخرون بنقد سطحي لممارسات «داعش»، والأسوأ من سارعوا لتقديم بعض النصائح له لتخفيف غلوه وعنفه! وزاد التعرية وضوحاً موقف جماعات «الإخوان المسلمين» من الحرب التي أعلنت عالمياً ضد «دولة (داعش)»، فبينما اشترطت حكومة أنقرة ضمان شريط آمن لها على طول الحدود مع سوريا لكف ما تعتبره شر أنصار «حزب العمال الكردستاني»، اختبأت البقية وراء تصريحات مقيتة، لزعامات دينية وسياسية، هاجمت الجهد العسكري الدولي ضد «داعش»، إما لأنها اعتبرته تعدياً مقصوداً على المسلمين السنة، يعزز تهميشهم وإذلالهم، ويقدم فائدة للمحور الإيراني، وإما لأنها لا ترى في ما يقوم به «داعش» سوى خلاف فكري ومسلكي قابل للتصويب بالحوار والتفاوض! وإذا أضفنا سهولة تنكر قوى الإسلام السياسي للشعارات المدنية والديمقراطية التي رفعتها، وإصرارها الفظ، ما أن وصلت إلى السلطة، على الاستئثار بالحكم وأسلمة الدولة والمجتمع، ثم مسارعة من لا يزال منها في المعارضات العربية إلى دعم الشعارات الإسلاموية وما سمي الهيئات الشرعية وتغطية ظهور التفريعات المتنوعة للجماعات الجهادية، وأضفنا أيضاً ضياع الجهد الأميركي في تدريب وتسليح فصائل إسلاموية سورية ادعت الاعتدال؛ حيث لم تتأخر غالبية كوادرها، تأثراً بتسعير الاستفزازات الطائفية، عن التحول نحو التشدد والتطرف، والتحقوا، قناعة أو خوفاً، بتنظيم «داعش» أو «جبهة فتح الشام»، نقف عند أهم الأسباب التي شجعت على إسقاط الرهان المريب على دور إيجابي للإسلام السياسي في المجتمعات العربية.
ما أشبه الأمس باليوم والغد بالبارحة، فإذا كان فشل البرنامجين القومي والاشتراكي وسقوطهما بعد هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967 وضحالة ما قدماه لتنمية المجتمع وتلبية حاجات الناس، قد منح الآيديولوجيا الدينية فرصة ثمينة لملء الفراغ، يصح القول إن فشل البرنامج الديني اليوم في إدارة السلطة والمجتمع بعد السقوط المدوي لـ«دولة (داعش)» المريضة، تحدوه خيانة الأنظمة «الإخوانية» لشعارات الحرية والعدل والمساواة وعجزها عن تخفيف حدة أزمات مجتمعاتها، قد وجه بالمثل ضربة قاسية للخيار السياسي الإسلاموي وأفقده عيانياً الفرصة التاريخية التي أتيحت له، فاسحاً في المجال أمام تقدم خيارات سياسية إنسانية بعيدة عن العمى الآيديولوجي وأمراضه.
والحال، لا يمكن لأكثرية مظلومة، قومية كانت أم دينية، أن تنتصر لحقوقها وتسترد موضوعياً زعامتها، ودورها في صناعة التاريخ وقيادة المجتمع إن غرقت في خصوصيتها الإثنية أو الطائفية، وإن لم تتصدر المشهد الوطني وتمسك زمام المبادرة للدفاع عن الحقوق العامة لجميع الناس دون تمييز، عن المساواة بين البشر بغض النظر عن جنسهم أو مذهبهم أو دينهم أو قوميتهم، عن وطن ديمقراطي معافى يؤمن بالتنوع والتعددية ويتشارك القيم الأخلاقية والإنسانية التي تجمع عليها مختلف الأديان.
فأي أفق لمجتمع تبقى فيه الأكثرية المظلومة أسيرة زعامات سياسية دينية أدمنت الجمود والتقليد، وحرمت العقلانية في طرائق التفكير، وعملت على تسعير الصراعات المذهبية المتخلفة كي تكرس حضورها وامتيازاتها؟ وأي أفق لمجتمع تتلكأ فيه أكثريته الإسلامية عن معالجة جذرية لعلاقة الديني بالدنيوي، عن تمكين الدين من تقديم إجابات واضحة على أزمات الواقع وأسئلته الملحة وفق منطق العصر واحتياجاته، عن إنتاج حضور للإسلام يتناسب مع التطور الحضاري وينأى به عن دنس السياسة والمصالح الوضعية، ويكرس تألقه كرسالة خير ونماء للبشرية جمعاء؟