ما هو سر الهدية الروسية الكبرى لتل أبيب؟ إسرائيل استعادت رفات الرقيب زيخاريا باوميل الذي قتل في معركة السلطان يعقوب في لبنان في العام 1982. في حينها قُتل ثلاثة جنود إسرائيليين، وغَنِم الجيش السوري في حينها الدبابة التي كانوا على متنها.
في العام 2016 أهدى بوتين نتانياهو تلك الدبابة، وها هو اليوم يهديه رفات الجندي الأول من بين الجنود الثلاثة، والأرجح أن البحث مستمر عن رفاتي الجنديين الآخرين!
الهدية كبيرة، والوجدان الإسرائيلي ينبض كله عندما ينجح باستعادة جثة جندي. لكن السؤال يبقى عن الثمن الذي ستتقاضاه موسكو ومن ورائها النظام في سوريا لقاء هذه الالتفاتة نحو تل أبيب. الأوركسترا الديبلوماسية في تل أبيب عزفت بالأمس لحن انتصار بطعم خاص. نتانياهو في طريقه لشكر موسكو، وقال بهذه المناسبة: “أشكر الموساد والشاباك والاستخبارات العسكرية وجيش الدفاع على ما قاموا به من أجل استعادة زخاري إلى إسرائيل. شملت هذه الجهود عملية ديبلوماسية واسعة النطاق سيتم سرد تفاصيلها مستقبلا”.
نتانياهو أطلق لنا الخيال إذا. “تفاصيل الجهود الديبلوماسية” التي رافقت عملية استعادة الجندي تصلح لأن تكون رواية سياسية، متنها حرب هائلة في سوريا، ونظام متنازع بين موسكو وطهران، ويوزع ما تبقى في جعبته من هدايا. ورفات زخاريا ليست الهدية الأخيرة التي في حوزته. النظام الذي لا يملك خريطة رفات عشرات آلاف السوريين الذين قتلهم، ما زال محتفظا برفات زخاريا. ونقلت وسائل إعلام غربية عن مسؤولين إسرائيليين أن الرفات كان محفوظا في تابوت فوق التراب، وأن تل أبيب استعادت معه ثياب الجندي وحذاءه، ومن يدري ربما استعادت بندقيته.
هل من “خيانة” أوضح من هذه الخيانة يا أهل المقاومة؟ والجواب كان من مسؤول الجبهة الشعبية القيادة العامة أنور رجا، الذي قال إن الجثمان هربته الاستخبارات الإسرائيلية إلى تركيا، ومنها إلى تل أبيب. تركيا إذا هي مصدر “الخيانة”! تركيا العدو الجديد! ليس مهما أن يذهب نتانياهو إلى موسكو ليشكر فلاديمير بوتين، وليس مهما أن يبادل القيصر رئيس الكيان الغاصب شكره بابتسامة صفراء تخفي درجة هائلة من الاستخفاف بمن يعولون على حفظ حد أدنى من ماء الوجه.
يشعر المرء أمام هذا المشهد أن موسكو ترغب بإهانة حلفائها. وهذه ليست المرة الأولى التي يرقص فيها فلاديمير بوتين مع بنيامين نتانياهو على “كرامة” حلفائه. الهدية الأولى كانت الدبابة الوحيدة التي غنمها الجيش السوري خلال هزيمته في لبينان في العام 1982. وها هي الهدية الثانية. وبوتين الذي يريد نجدة نتانياهو في الانتخابات الإسرائيلية، سبق له أن هب لنجدة معظم أحزاب اليمين الأوروبي في الانتخابات. وهنا يمكن وضع الهدية أيضا في سياق رغبة الكرملين برئيس حكومة في إسرائيل من نوع نتانياهو.
لا شيء يمكن أن تعطيه تل أبيب لموسكو في سوريا إلا التزامها بحماية الرئيس الضعيف المقيم في “قصر الشعب”. فلنستعرض الأثمان المحتملة، ولن نخرج بغير هذه النتيجة. من المؤكد أن إسرائيل ستواصل غاراتها على مواقع إيرانية في سوريا. أمنها القومي لا يمكن أن تبادله برفات جندي. ومن المؤكد أيضا أن النظام في سوريا لا يريد رفات جنود سوريين في مقابل رفات زخاريا. ويبقى أن موسكو تريد أن تشيد نظام أمان حول رئيس تشعر أنه يرتج على كرسيه. ومَن غير تل أبيب يمكن أن يفتح لموسكو قناة تواصل مع واشنطن هدفها حماية بشار الأسد؟
الثمن المعنوي كبير هنا، وخطاب احتضان بشار الأسد القائم على مقولة الصراع صار أرجوزة ممجوجة لا تقنع دجاجة. الوجوه مخبأة بأيدي في أصابعها خواتم أئمة الصراع والمقاومة. إسرائيل استعادت رفات جنديها هذه المرة بعملية “أنيقة” شاركت فيها أجهزة ديبلوماسية! النظام في دمشق يهتز إلى حد لم يعد يكترث معه لما تبقى من ماء الوجه. المهمة صفيقة إلى حد يصعب تخيله. لقد بُذلت في سبيل حماية ساكن قصر الشعب كل طاقة الخطاب.
الخطاب صار من الرثاثة إلى حد لم يعد أصحابه يشعرون معه بالإهانة. قصة بالغة الركاكة وعديمة الذكاء عن دور لـ”المعارضة السورية” ولأنقرة في تهريب الرفات تكفي خطاب الممانعة لكي يلتقط أنفاسه. الهزال جزء رئيسي من متن هذا الخطاب. “أنقرة أعادت لتل أبيب رفات الجندي”، و”أنقرة خائنة”. وفي هذا الوقت علينا أن نشيح بوجهنا عن صورة بوتين مستقبلا نتانياهو الذي جاء ليشكره. ألم يسبق أن أشحنا بوجوهنا عن قاتل، وهببنا لنجدته لـ”حماية المراقد”!