الإسلام والغرب والديمقراطية المزعومة
فيكتوريوس بيان شمس
صرّح الرئيس السوري بشار الأسد بعد تحقيق الثورة التونسية بعض نتائجها، وعشية الثورة المصرية وقبل انطلاق الثورة السورية بحوالي الشهر في حديث متلفز أن “الشعب السوري غير مؤهل للديمقراطية بعد”، تزامن التصريح مع محاولة يائسة لإثبات أن سوريا أبعد ما تكون عن ثورة شعبية ضد سلطته، والتصريح كان مصحوبًا ببعض الإغراءات الصغيرة، كإعادة تشغيل شبكات الإنترنت ورفع الحظر عن بعض المواقع المحجوبة، وتخفيض هامشي لا يكاد يُذكر عبر مراسيم رئاسية (ياللعجب!) لبعض السلع كالأرز والموز والبُن. وبالتزامن أيضًا، أي في نفس الشهر، وبفارق أيام أو ربّما ساعات، صرّح نائب رئيس الجمهورية المصري عمر سليمان، في 11 من شباط 2011، بتصريح طبق الأصل لتلفزيون “ABC” الأمريكي: “الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية”، قبل أن يرحل في تموز 2012 في ظروف غامضة. وللمصادفة، فقد ردّ المرشح الرئاسي علي بن فليس على مزاعم من هذا النواع تتردّد في أوساط رجالات النظام الجزائري بالتزامن مع الحراك الشعبي ضد العهدة الخامسة.
يُفهم من هذه التصريحات، أن هذه النُظُم تعترف بأن لا علاقة لها بالديمقراطية، وهو ما يُفسّر (ربّما) استماتتها وتوحّشها في سحق أي بديل ديمقراطي محتمل، لأن النقطة الأكثر إرعابًا في المسألة الديمقراطية بالنسبة لهذه الأنظمة، هي مسألة التداول على السلطة. وتُتّهم هذه الأنظمة من قبل شعوبها بمحاباة الغرب من خلال الإيحاء –وهو إيحاء سليم في جانب منه بعد سحق البدائل الديمقراطية الأخرى- بأن البديل، هو بالضرورة بديل إسلامي، أصولي، متطرّف. هذا الغرب الذي يُتّهم بدوره بأنه يرفع شعارات فارغة المضمون حول الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، والتي سرعان ما تتساقط كلها أمام مصالحه. هذا على الأقل ما يؤكّده الصحفي البريطاني روبيرت فيسك الذي غطى “العشرية السوداء” في تسعينيات القرن الماضي: “تعلّم الجزائريون من الفرنسيين أن الانتخابات يمكن تزويرها”. وقد وصفت المؤرّخة الفرنسية آني راي – غولذيغر كيف كان الجزائريون فاسدين بالفعل، “علّمناهم أن بإمكانهم اللعب بالديمقراطية وتزوير الديمقراطية… كنّا أساتذة من الدرجة الأولى في معاداة الديمقراطية”. وبينما لعب الجزائريون دور حكامهم الفرنسيين السابقين، قام المناوئون الإسلاميون لنظام الحكم الجزائري بتقليد نشاطات جبهة التحرير الوطني أكثر فأكثر(1.
هذا بعد أن حققت “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” فوزًا ساحقًا في الانتخابات البرلمانية 1991، والتي ألغاها الجيش، لتدخل البلاد في نفق الحرب الطويل ابتداء من العام 1992.
والأمثلة على وصول الإسلاميين إلى السلطة عبر الانتخابات كثيرة، منها: فوز “حركة حماس” في الانتخابات التشريعية في العام 2006، قبل أن يدبّ الخلاف بين الأشقاء في العام 2007، ويتكرّس الانقسام إثر محاولات إبعاد الحركة عن السلطة. وقد كانت النتائج في مصر وتونس مشابهة، فقد وصلت “حركة النهضة” التونسية إلى السلطة ابتداء من العام 2011، بينما في مصر وصل “الإخوان المسلمون” إلى السلطة بانتخابات ديمقراطية في حزيران 2012 قبل أن يُطاح بهم بانقلاب عسكري في العام 2013.
في النص التالي لصمويل هنتغتون في كتابه بالغ الأهمية “صدام الحضارات”، والذي يقسّم فيه العالم إلى ما بين 7 و8 خطوط حضارية ترتكز على أُسس دينية، يظن المرء أنه يعلّق على النتائج سالفة الذكر بكثير من السخط، إذ يقول: “الفشل العام للديمقراطية الليبرالية في أن تترسّخ في المجتمعات الإسلامية ظاهرة متكرّرة ومستمرة على مدى قرن كامل، بدأ في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر. هذا الفشل له مصدره -في جزء منه على الأقل- في طبيعة الثقافة الإسلامية والمجتمع الإسلامي الرافضين للمفاهيم الغربية الليبرالية(2)”.
في موقع آخر من نفس المصدر، يصبح هنتغتون أكثر دقّة ووضوحًا (أو قُل: وقاحة) في شرحه لكيفية تعاطي الغرب مع المسألة الديمقراطية في العالم الإسلامي: “لقد شعر الغرب بالارتياح عندما تدخل الجيش الجزائري في سنة 1992 وألغى الانتخابات التي كان من الواضح أن الجبهة الإسلامية “FIS” الأصولية ستفوز بها. كما اطمأنت الحكومات الغربية أيضًا عندما طرد حزب الرفاه في تركيا وحزب PJB القومي في الهند من السلطة بعد تحقيقهما انتصارات انتخابية في 1995 و1996. من جانب آخر في إطار ثورتها، فإن إيران كان يوجد بها أحد أكثر الأنظمة ديمقراطية في العالم الإسلامي، والانتخابات التنافسية في دول عربية كثيرة بما في ذلك السعودية ومصر من المؤكد أنها ستفرز حكومات أقل تعاطفًا بكثير مع المصالح الغربية عن الحكومات غير الديمقراطية السابقة عليها(3)”.
النص صادق، واضح، بالغ الدلالات، وكثيف، خاصة فيما يتعلّق بـ “الديمقراطية الإيرانية” تحديدًا، وتمييزها عن الأنظمة الإسلامية الأخرى. ولتوضيح الفكرة، وتحديدها بشكل أدق، يمكن الاستعانة بما تقوله وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت: “بعض العلماء يدعون إلى إحياء الاجتهاد، وخاصة كما ينطبق على دور المرأة، والمشاركة في الاقتصاد العالمي، والعلاقة مع غير المسلمين، وتعريف الدولة الإسلامية. وغالبًا ما ينتقد هؤلاء المصلحون الغرب، مع ذلك يتّهمهم المحافظون أحيانًا بالعمل لمصلحة الغرب على إضعاف الروح الحقيقية للإسلام أو تدميرها. وبما أن السنّة يفتقرون إلى هرمية كهنوتية مركزية، فإن مزاعم التجديف تنطلق في الغالب ونادرًا ما تتبدّد”(4).
يفتقر السُنّة إلى هرمية كهنوتية. هذا ما تؤكّده أولبرايت في أكثر من موضع في نفس الكتاب، وهو أقرب إلى أن يكون عظة دينية، يتركّز بغالبيته على الإسلام والمسلمين. هذا مثال آخر من نفس المصدر: “إذا وضعنا ادعاءات ابن لادن جانبًا، نجد أنه غير مؤهل لتعليم المسلمين واجباتهم الدينية. بل إن مضيفه وراعيه في أفغانستان، الملا عمر، أقرّ بأن “ابن لادن ليس مخولًا لإصدار الفتاوى، لأنه لم يكمل دراسة قرآنية إلزامية لمدّة 12 سنة لكي يكون مؤهلًا لمنصب المفتي. ولا يصدر الفتاوى إلا المفتون. وابن لادن ليس مفتيًا ولذلك فإن أي فتوى يصدرها غير شرعية وباطلة ولاغية”. لم يمنع قول الملّا من أخذ ابن لادن على محمل الجد. فالإسلام السني يفتقر بطبيعته إلى قائد موحّد(5).
في الكتاب نفسه، وفي أكثر من موضع أيضًا، تعبّر أولبرايت عن إعجابها الشديد بالرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، والذي اعتبر عشية اجتياح العراق أن الحرب، على ما أسماه “الإرهاب” هي “حرب صليبية”.
لكن أليس من الإجحاف والمبالغة اعتبار أن الغرب يشن على الشرق حربًا دينية؟ تجيب مادلين أولبرايت: “عندما أسافر حول العالم، غالبًا ما أسأل، لماذا لا نستطيع إبقاء الدين بعيدًا عن السياسة الخارجية؟ وجوابي هو أننا لا نستطيع ولا ينبغي لنا ذلك. فالدين جزء كبير مما يحفز الناس ويشكّل آراءهم في السلوك العادل والصحيح. ويجب أن يُحسب له حساب. لا يمكننا أن نتوقع من قادتنا اتخاذ القرارات بمعزل عن المعتقدات الدينية (6).
يعبّر الغرب بمؤسساته ومفكريه ومنظّريه عن خوفهم من ديمقراطية حقيقية في الشرق تأتي بالإسلام إلى السلطة، وهي الفكرة التي التقطتها أنظمة الشرق واستخدمتها على امتداد عقود، منذ بدء مسيرة “الاستقلال” للكيانات العربية في أربعينيات القرن الماضي إلى اليوم لتثبيت سلطانها، حتى وإن كان الثمن تدمير البلدان التي تحكمها وتهجير شعوبها، وهو ما لا يكترث إليه الغرب بكل الأحوال. ألم يصرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حديث لـثماني صحف أوروبية في حزيران 2017، وفي إطار تعبيره عن خوفه من البدائل “الإرهابية”، والمقصود الإسلامية، بأن “بشار الأسد عدو الشعب السوري، لكنه ليس عدو فرنسا”؟
1- روبيرت فيسك/ “الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة- الإبادة”/ ص 399
2- صمويل هنتغتون/ “صدام الحضارات”/ ص 188
3- صمويل هنتغتون/ “صدام الحضارات”/ ص 317
4- مادلين أولبرايت/ “الجبروت والجَبّار– تأملات في السُلطة، والدين، والشؤون الدولية”/ ص 115
5- مادلين أولبرايت/ “الجبروت والجَبّار– تأملات في السُلطة، والدين، والشؤون الدولية”/ ص 142
6- مادلين أولبرايت/ “الجبروت والجَبّار– تأملات في السُلطة، والدين، والشؤون الدولية”/ ص 256
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :