عن الكتب التي لم ترجع إلى أصحابها في رفوف داريا المخبَّأة

  • 2019/03/31
  • 1:16 ص

مشهد من فيلم"داريا.. مكتبة تحت القنابل" (Brother Films)

نبيل محمد

لم تسعَ كاميرا دلفين مينو (مخرجة فيلم: داريا.. مكتبة تحت القصف) إلى صناعة شريط يفرض على مكوناته وتفاصيله التحرك بسيناريوهات جاهزة فرضتها المخرجة، ولم توثق القصة الفريدة التي عملت عليها بمخطط توثيقي صلب قد يضمن للفيلم حضورًا عالميًا كبيرًا، بل تركت كاميرات شبان داريا (مؤسسي المكتبة)، وأصواتهم، وأفكارهم، ولغة التخاطب التي ينتقونها، مؤطرًا عامًا للفيلم، فلملمت قصاصاتهم، وتركت لهم حرية التعبير والحركة. استخدمت ما صوروه -وهو الأهم في الفيلم- وصوّرت ما يريدون إظهاره من حياتهم بعد خروجهم من بلدهم، فسار الفيلم بمشيئة أبطاله، بينما رتبت المخرجة كل فوضاه وأمكنته، ليخرج نظيفًا بإحاطته بالتجربة، غير عابر تحت مقص أحد يشذّبه لكي يتيح له صالات أكثر وذهبًا أثقل، بسيطًا بكل شيء، قادرًا على الاحتفاظ بضحكات أبطاله من داريا إلى اسطنبول.

من داريا عملوا كناشطين إعلاميين سلميين، شاركوا بنشاطات مكتبة  أسسها أكثر من 15 شاباً من داريا،  خلال حصار مدينتهم، فكانت مشروعًا ثقافيًا تنويريًا، في أحد ملاجئ داريا

شادي وأحمد وجهاد، الذين قدمهم الفيلم، ثلاثة شبان من داريا، شاركوا بنشاطات مكتبة أسسها أكثر من 15 شابًا، خلال حصار مدينتهم، فكانت مشروعًا ثقافيًا تنويريًا، في أحد ملاجئ داريا، حيث انتشر الشبان مع أصدقائهم بين البيوت المدمرة والمساجد والمدارس، وجمعوا كل ما فيها من كتب، ووضعوها على رفوف مكتبتهم، لتكون فيما بعد مقصد الكثيرين من السكان، للقراءة والاستعارة، وحضور الندوات التثقيفية، والدورات التدريبية، بينما الطائرات في الخارج تطحن كل ما علا فوق الأرض، لذا لا مكان للمكتبة، والحياة أصلًا إلا في الأقبية والملاجئ، ولا مكان أصلًا للاستقرار الحقيقي، فكل مشروع يقوم به أي محاصر، سيكون مرهونًا إما بنقل المكان أو الإغلاق، ومع ذلك كان الشبان يحفرون عميقًا في الجدران ليثبتوا رفوف المكتبة، كي لا تقع إثر قصف في الشارع المقابل، وكي تبقى ثابتة حتى بعد خروجهم.. كان أغلب السكان يتخيلون الخروج يومًا ما، وهو ما حدث.

يتتبع الفيلم الذي عرض قبل أيام في المركز الثقافي الفرنسي في اسطنبول، بشكل متوازن، حركة الشبان وحياتهم في داريا، متنقلًا بين حفل خطوبة وجنازة، كلاهما في المكتبة، وبين بساتين مختبئة بين الجدران المدمرة يزرعونها لأن الكتب لا تقي من الجوع، وبين طرقات التهريب التي يجلبون منها البطاطا والبندورة والحبوب. وتتقفى الكاميرا آثار الأطفال في الأقبية المتهالكة حيث يصنعون الكاتو من الرمل، ويزينونه ببقايا ألعابهم وبأوراق الشجر. صور من أقسى صور الحصار، وتجربة من أندر ما يمكن أن يصنعه المحاصرون، تحت سماء داريا الشهيرة بأمطار البراميل المتفجرة التي لم تغاردها خلال فترة الحصار.

مقاتلون من الجيش الحر يزورون المكتبة، وكتاب على سجادة إلى جانبه بندقية كلاشنكوف، حقائق ووقائع لم يهملها الفيلم ولم يتجنبها، عرضها بحقيقتها، تاركًا الجدل مفتوحًا، ومدركًا أن هذه الصور هي التي ستثير النقاش حولها أنَّى عرض الفيلم، وربما ستلعب دورًا مؤثرًا في نقد وتصنيف الفيلم، وفي حضوره الدولي. لم تتجنب المخرجة ذلك، ولم يتجنب الأبطال ذلك، هذا ما كان يحدث وفق الفيلم، حيث المقاتلين كانوا يحمون المكتبة، ويقرؤون فيها في ذلك الوقت، بلحاهم الطويلة ومظهرهم الجهادي، بالمقابل لا يمكن لهذه الصورة أن تطبع الفيلم وأبطاله بالنمطية التي يمكن أن تبنى عليها، فزفاف أحد أبطال الفيلم لوّن الفيلم بالقبلات الدافئة الجميلة أمام الكاميرا، وبدموع الشوق لداريا.

يلتقي الشبان في تركيا، بعد خروجهم من داريا، فأحدهم يحكي قصة مكتبته المتنقلة التي أسسها في إدلب قبل عبوره إلى تركيا محاولًا إكمال ما بدأه في داريا، وآخر يعيش بين رفوف المكتبات مستغربًا كيف عاش قسطًا من حياته لم يكن يعشق فيه الكتب، بينما علمته مكتبة أسسها تحت الحصار معنى تقليب الصفحات، والثالث يجمع أصدقاءه في حفلة زفافه ليرددوا هتافاتهم القديمة في منفاهم الجديد.

تمر صور المكتبة مدمرة بعد دخول النظام السوري إلى داريا، حيث رصدتها عدسة CNN، ولم تعد الكتب إلى أصحابها، أصحابها الذين كان اسم كل واحد منهم مكتوبًا على أول صفحة من كل كتاب، كان شادي وأحمد وجهاد يتخيلون حينها مسيرة طبيعية للتاريخ، يعود بها السكان إلى مدنهم، فيقوم كل منهم باسترداد كتبه من المكتبة العامة. لم يحدث هذا، أي تاريخ طبيعي سيمر!! النظام السوري عاد إلى داريا لحرق المكتبة وحقوق ملكية الكتب. النظام السوري موجود لفقء أي عين تحلم بأي شيء واقعي.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي