إبراهيم العلوش
كانت الكتب المدرسية القديمة تضع مسائل مراجعة للبكالوريا في آخر الكتاب، وكانت تضع أجوبة لكل مسألة في آخرها على شكل رقم، هو الجواب النهائي للحل، وخاصة مادة الفيزياء، التي كانت تعتبر صعبة ومتعددة الطرق في الحل ولكن الجواب النهائي نفسه.
وفي المدن والقرى الصغيرة في السبعينيات والثمانينيات من القرن السابق، كان أساتذة الفيزياء والمواد العلمية قليلي العدد، وكانوا مشغولين دائمًا، ومن الصعب عليهم شرح المقررات بشكل كامل وحل المسائل العامة، فهذه الرفاهية لا توجد إلا في المدن الكبيرة التي تغص بالمدرسين وبالكفاءات العلمية.
وأمام التنافس الكبير كنا نجد أنفسنا حائرين ومشتتين، وخاصة عند حل المسائل العامة في آخر الكتاب، إذ يكون أستاذ الفيزياء قد ترك القرية أو المدينة الصغيرة وعاد إلى مدينته ضمن أعراف كانت سائدة في الصف التاسع والبكالوريا، إذ كانت المدارس تعطل منذ بداية شهر نيسان بحجة إتاحة الفرصة للطلاب لمراجعة الدروس.
ولكن بعض الحلول لمعت بابتكار طرق للحل تبدأ بالمقلوب!
كان بعض الطلاب ينطلقون في حلولهم للمسائل من الرقم المثبت في الجواب المحدد من قبل واضع المسألة، ويرجع في تطبيق القوانين حتى يصل إلى البداية، ويغيّر بعض الطرق حتى يتمكن من الحل المعكوس!
وبرز الكثير من زملائنا في ابتكار الحلول التي تنطلق من الجواب، وترجع بطرق ملتوية حتى يصبح الحل ممكنًا للمسألة.
اليوم وبعد مرور زمن طويل على تلك التجربة، اكتشفت أن الكثير منا لا يزال يستخدم طريقة زملائنا في الحل المعكوس، وينطلق من الجواب المفروض سلفًا، لتحليل الواقع، ولتدريس أبنائه، ولفهم الدين، ولفهم الكثير من الأشياء في الحياة، ويستعملون الأجوبة الثابتة لمسائل وفي ظروف متغيرة.
فالأب والأم يضعان جوابًا ثابتًا، ويقرران أن ولدهما يجب أن يدرس الطب، وابنتهما ستدرس الصيدلة مثلًا، ويبدآن بمناداتهما منذ الصغر بالدكتور سالم، والصيدلانية سهام!
ولا تنفع كل الحجج ولا كل المبررات بتحويل قناعة الأهل بهذه الأجوبة الثابتة، سواء كانت ميول الدكتور سالم منذ الروضة ميولًا مسرحية أو رياضية أو ميكانيكية، أو ميول الصيدلانية سهام منذ الحضانة هي حب الرياضيات وعلوم الطبيعة أو تعلم اللغات، أو غيرها.
وكانت العشيرة أو البيت يعتبران أن دماء الأبناء هي أكثر أصالة وتفوقًا من البيوتات والعشائر المجاورة والبعيدة، فهم أصل الكرم، وأصل الشجاعة والتفوق، ولا ينفع إذا كان معظم أفراد العشيرة مجرد رعاة غنم، أو أهل بيت المنجد كلهم منجدين أو بوابين، فالجميع انطلقوا من جواب ثابت لتقييم أنفسهم وهو التفوق والشجاعة والنجاح!
حديث الرسول “ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة”، تجده بتفسير واحد وثابت، فكل الطوائف وكل الملل وكل المشايخ يرددون هذا الحديث ويجيبون عنه أن فرقتهم هي الفرقة الناجية، والطوائف والملل الأخرى حتمًا في النار، رغم كل ظروف التاريخ والجغرافيا المتغيرة كل يوم.
وفي الانتخابات تجد أعدادًا كبيرة من المرشحين إلى المجالس البلدية، وإلى مجلس الشعب، والى مجالس النقابات، ولكن الجواب واحد، هو فوز مرشحي الجبهة الوطنية التقدمية، مع من ترضى عنه أجهزة المخابرات من المستقلين أو من الوجهاء الذين يرفعون الصوت عاليًا للإشادة برئيس الجمعية الفلاحية، أو بعناصر مفرزة الأمن السياسي أو العسكري، ولاحقًا الأمن الجوي الذي تأخر انتشار فروعه التي انتشرت في البلاد بعد انقراض فروع المؤسسة الاستهلاكية.
أما في الجيش فرغم وجود أعداد هائلة من الضباط القادة، والذين لديهم الكثير من الدورات والبعثات والأوسمة التي يحملون شهاداتها، فإن القائد هو واحد: قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد!
وفي حزب البعث يوجد مفكرون وسياسيون في الفروع الحزبية وفي القيادة القومية وفي القيادة القطرية، إلا أن الأمين العام ثابت ولا يتغير، وهو الرفيق المناضل الأمين العام للحزب وللجبهة الوطنية التقدمية حافظ الأسد!
واللافت للنظر هو أن الكثير من زملائنا في البكالوريا الذين برعوا في حل المسائل بالمقلوب، أصبحوا قادة في الحزب، وفي النقابات، وأئمة جوامع، وارتقوا في مسيرتهم النضالية كالبرق!
الآن ورغم كل المتغيرات والأهوال التي حلت بنا كسوريين، وبعد الاحتلال المتنوع الشرقي والغربي والشمالي والجنوبي، وبعد تهجيرنا من بيوتنا، ومن مدننا، لا يزال الكثير منا ممسكًا بأجوبته الثابتة عن كل الاحداث وهي: المؤامرة، العداء للإسلام، القوى الرأسمالية المتوحشة، الماسونية، الأسد أو لا أحد.. ولا أحد يسأل نفسه عن مسؤوليته الشخصية عما حدث، ولا يعترف لنفسه بأي نصيب من اللوم، أو حتى الانتقاد، فالآخرون هم السبب، والجواب الثابت هو أنه بريء، وهو ضحية لا أكثر.
ورغم أن مجرد الصمت عن بعض الجرائم يعتبر مشاركة فيها، فإن البعض بايع النظام، ووقف على حواجزه، وربما ساعد الأجهزة على الإيقاع بالآخرين، وهو يعتقد أنه بريء من أفعال النظام، وبعدها بايع الجيش الحر، وبايع داعش، وبايع قسد والتحالف الدولي، ولا يزال يحل كل النقاشات والأفكار، بجواب ثابت: إنه بريء!
لماذا فقدنا الإحساس بمعاناة الآخرين، ولم نعد نسمع رأيهم، ولا حتى أنينهم، فهل هذه الأجوبة الثابتة لها مفاعيل تسبب الشلل، أم أنها فقط تؤثر على الأذن وتسبب الصمم؟