عنب بلدي – حباء شحادة
من نظرته الثاقبة وشكله المهيب إلى علو تحليقه وشراسة فطرته تمكن الطائر الحر من سحر العرب منذ القدم، فبات امتلاكه وتدريبه للصيد هدفهم ومتعتهم.
“الطائر الحر” هو وصف يشمل أنواعًا متنوعة من الصقور والشاهين، التي تتميز بعدم تقيدها بالجوع كسبب للقتل، مع اقتصار غذائها على ما تصطاد وعدم تناولها للجيف.
لصيده وتجارته سحر خاص أيضًا، فمن عمل بهذه الحرفة وأحبها لن يتمكن من تبديلها بسهولة، فما كان بوفرة ويسر سابقًا بات عصيًا نادرًا اليوم.
ومن أشهر من عمل بهذه الحرفة في سوريا هم أهل مدينة الرحيبة في منطقة القلمون الشرقي، إذ عرفت مدينتهم بـ”عاصمة الصقور”، وعرف أهلها بولعهم بالطير وتجارته.
وكانت الرحيبة فيما مضى سوقًا يقصده الأمراء والأثرياء، ولكن أرضها الرحبة لم تعد تحتضن الطيور كما كانت، ورويدًا رويدًا نقصت أعدادها، وندرت مشاهدتها، إلا أن أهل المدينة لم يتخلوا عن مهنتهم بل لحقوها في أصقاع الأرض حتى بعد أن زادت مغارمها واشتدت صعوبتها.
من حال إلى حال بين الأمس واليوم
بدأ صيد الطيور في الرحيبة، مع بداية القرن العشرين، بغرض تلبية طلبات شيوخ عشائر البدو المتاخمين لحدودها، لكن ازدهارها ترافق مع صعود دول الخليج العربي وزيادة ثرائها إذ أصبحت وجهة للصيادين المغامرين الذين نقل أحد أوائلهم، أبو برجس الشيخ، الطيور على ظهر الدراجة الهوائية، حسبما يشاع بين أهلها.
وانتشر صيت الرحيبة عقب ذلك كمركز للصيد والتجارة، وكسب أهلها أرباحًا كبيرة، شجعت العديد من السكان على التوجه إلى جبالها للمشاركة بالصيد الثمين، وزاد نشاطهم التجاري وعلاقاتهم وعنايتهم بالطيور، لدرجة أن بعضهم كانوا يستأجرون طائرات بأكملها لنقل الطيور.
زادت المنافسة وارتفعت الأسعار، لكن أعداد الطيور لم تتمكن من مواكبة الطلب، إذ بدأت بالتدهور سريعًا منتصف القرن الماضي، دافعة عشاقها للسفر داخل سوريا وخارجها للحاق بها وقنصها.
التاجر الرحيباني، أحمد محمد، قال لعنب بلدي، إن الأماكن الأساسية للصيد كانت في سوريا والعراق والأردن، أما الآن فأصبحت روسيا ومن بعدها باكستان والهند ومنغوليا وسيبيريا وحتى جبال الألب.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين ظهرت تحديات جديدة، أهمها هو وضع الاتحاد الأوروبي لسلسلة من القوانين الخاصة بحماية الحيوانات والطيور المهددة بالانقراض داخل أراضيه، وخارجها بالنسبة للحيوانات المهاجرة إلى دول العالم الأخرى.
فأصبح صيد الطير والمتاجرة به فعلًا غير قانوني في معظم دول العالم، وزاد على ذلك الاضطرابات الأمنية في سوريا والمنطقة، ما جعل التهريب جزءًا من المهنة في يومنا هذا.
وانتشرت في الدول التي تشملها قرارات قوانين الحماية مزارع لتفريخ الطيور وتربيتها، والتي وإن كانت أقل مهارة في الصيد من نظيرتها البرية إلا أنها تقدم حلًا أكثر أمنًا وأقل ثمنًا لمن لا يود المخاطرة.
وقال محمد إن الحديث عن تجّار الطيور كان يدفع للتفكير بالثراء الفاحش، إلا أن الحال اليوم اختلف، ففي حين كانت نسبة الربح تصل إلى 90% من صفقة البيع، أصبحت الآن 5%.
موسم الصيد والغنيمة الأثمن
بالنسبة لمن اختار هذه المهنة لا بديل عن جمال الطائر الحر “الوحش” (البري)، ولا مفر من اللحاق به لأصقاع الأرض، وإن كانت مخاطره أكبر.
يبدأ موسم الصيد، حسبما أوضح محمد، في تركيا مع بداية الشهر السادس حينما تبدأ حركة طائر الشاهين التركي، يليه في الشهر الثامن الطائر المنغولي الذي تقتصر فترة صيده على شهرين فقط قبل بدء الثلوج.
أما في روسيا فتمتد فترة الصيد ما بين الشهر الثامن والثاني، لأن جوها يساعد في ذلك، وفي سيبيريا ومع نهاية الشهر العاشر يكون الثلج فيها صديقًا للصيادين فهو يدفع بالطير للاقتراب من الأرض وترك أعالي السماء المتجمدة.
وبشكل عالمي يمتد الموسم من الشهر الثامن حتى الأول، ومع لحاق الطيور إلى بلادها البعيدة لم يعد الصياد محدودًا بالعدد الضئيل الذي كان يحصل عليه في دياره، إذ كان المكسب في الموسم الواحد لا يكاد يتجاوز العشرين طائرًا، أما في منغوليا مثلًا فهذا العدد يقنص في الأسبوع الواحد.
ومع وفرة الطيور في منغوليا فهي تقدم رخصًا قانونية وإن كانت باهظة الثمن للتجار ، بتكلفة حوالي 14 ألف دولار للطير، لذا فعلى التاجر الخبير أن يختار الطائر الذي يريده بعناية ليتحمل تكاليف الرخصة والنقل التي قد تصل إلى 25 ألف دولار.
اختيار الطائر يتعلق بعوامل متعددة من صفات تتعلق بلياقته وجماله ولونه، الأعلى ثمنًا هو الطائر الأبيض واسع العينين وكبير فتحة الأنف وحجم الكف.
كما أن لريش الطير صفات عديدة مهمة من نعومتها وطولها وعرضها، مع حجم الجناحين وسماكتهما، وهذه عوامل تؤثر ببراعته في الصيد.
مستقبل قلق
يرى محمد أن التكاليف المتزايدة لهذه المهنة قد دعت العديد من محترفيها إلى تبديلها والتوجه لأعمال أخرى مثل الاستثمار في مقالع حجر الرخام الرحيباني، أو افتتاح المحال التجارية.
كما أن مستقبلها بنظره سيكون التحول التام نحو تفريخ الطيور وتوقف العمل بالصيد، إذ إنه أضمن من الناحية القانونية، وسعره يقل بنحو خمسة أضعاف.
أثر التجارة في عاصمتها
تحدث التاجر الرحيباني، محمد الشيخ، لعنب بلدي، عن أثر المهنة في مدينته قائلًا إنه كان “طيبًا”، إذ “نشأت صداقات قوية بين تجار الطيور وأمراء الخليج الذين تبرع بعضهم بعدة مشاريع في البلدة”، مثل بناء مشفى الرحيبة، الذي قدمه الأمير حشر آل مكتوم، وبناء جامع مانع، الذي سمي باسم مانحه، مانع سعيد العتيبي، مستشار الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مع بناء وترميم جامع الحجر الأثري، والعديد من المشاريع الأخرى.
كما أن تلك العلاقة أدت إلى تشكل “طفرة عقارية” خاصة بأولئك الأمراء والعاملين معهم من أهالي الرحيبة، ما أتاح تأمين مئات فرص العمل في الخليج لشباب المدينة.
وكان ربح هذه التجارة ليس مقتصرًا على العائلات القليلة التي تناقلت معارفها وخبرتها، بل تجاوزتهم لتشمل كل من عمل في مجالات الخدمات والعقارات وقدمت رؤوس الأموال لمجالات عمل أخرى عديدة.