إبراهيم العلوش
في نيوزيلندا لم ينتظر الإرهابي خروجهم من الجوامع بل دخل إليهم برشاشه وقتل خمسين مصليًا، بمن فيهم المصلي الذي استقبله على الباب قائلًا: أهًلا بك يا أخي!
بينما في “سوريا الأسد” صاح مؤيدون وقادة مخابرات محرضين على المتظاهرين: إنهم خرجوا من الجوامع!
اليسار العربي المتطرف، وأزلام السلطة الأسدية يعتبرون جميعًا أن الجامع أشبه بوكر، وليس مكانًا للعبادة، وغرف التحقيق هي المنوطة بالتعامل مع كل من يدخل هذا الوكر، باسم الحفاظ على السلطة، والحداثة، والتقدم، والاشتراكية، وما إلى ذلك من شعارات النصب والاحتيال، التي لم تترك في بلادنا إلا التخلف والجهل والتشبيح والتعفيش!
اليمين الغربي المتطرف ينضم إلى ديكتاتوريات المشرق، ويعلن عداءه العنصري للجامع، ويعتبره وسيلة من وسائل الإرهاب وليس مكانًا للعبادة، ومن المستحيل أن تجد فيه رجلًا مثل ذلك المصلي في نيوزيلندا، الذي استقبل القاتل بكلمته الطيبة أهلًا بك يا أخي! ولم يستقبله بجوقة التكفير والجهادية الطفيلية التي تريد تحويل الإسلام إلى دين للشر بنظر العالم، وتريد أن تحول كل مؤمن إلى إرهابي، مستمتعة بشهرة الميديا وبالصور التي تملأ التلفزة العالمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تنشغل بصور العنف الذي يخطف اسم الإسلام وأهل الإسلام إلى جحيم الإرهاب.
جريمة الإرهابي في نيوزيلندا تقابلها صورة رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أردرن، التي أعطت العالم صورة جديدة عن محاربة الإرهاب، وجعلت من خطاباتها المتلاحقة مبادئ جديدة لمحاربة الإرهاب بوضع الإرهابي في خانة المجهول، ومنعت كل وسائل الإعلام من ذكر اسمه، فهو قتل المصلين الآمنين في الجامعَين، من أجل أن يكون بطلًا ويصل اسمه إلى بقية الذئاب النائمة والمنفردة في اليمين المتطرف وفي اليسار المتطرف، وأحرجت ببلاغتها وسائل الإعلام التي تطبل وتزمر للإرهاب الإسلامي وتصمت عن الإرهاب اليميني والعنصري، وعلمتنا جميعًا أن محاربة الإرهاب لا تكون بالإرهاب نفسه، كما فعلت الكثير من الدول التي تطاولت على الحريات بحجة الإرهاب، حتى وصل الحال ببشار الأسد إلى استعمال الأسلحة الكيماوية ضد شعبه بحجة محاربة الإرهاب، كذلك فعل الإيرانيون والروس، ناهيك عن همجية التحالف الغربي، وأتباع أوجلان الذين يستمتعون بتدمير المدن والقرى بحجة داعش، وكأنما الإرهاب سيقضي على الإرهاب!
يقف العالم اليوم بين إرهابين، إرهاب الدواعش وملالي إيران وحزب الله، من ناحية، وإرهاب اليمين الغربي المتطرف والعنصري من الناحية الأخرى، ومصير العالم ينوس بين هذين الإرهابين، اللّذين يعدان كل ما يستطيعان من قوة لهدم التفاهمات الإنسانية، وتقويض ما توصلت إليه الإنسانية من عقود وتفاهمات التسامح وتبادل الثقافة، والرأي، والتنقل، والعيش الآمن.
فإرهاب الإسلاميين أيقظ الإرهاب العنصري في الغرب، وأخرجه من القمقم الذي نام فيه منذ أكثر من مئة عام. وهذان الإرهابان لا يمكن مجاراتهما والرد عليهما بالإرهاب المعاكس، بل بالإصرار على المبادئ الإنسانية، وحرية المعتقد، والمساواة بين البشر، والاحترام المتبادل بين الأديان، فلا عودة الحروب الصليبية ستضيف إلى العالم شيئًا من الرفاهية، ولا صيحات الذئاب الداعشية النائمة ستؤتي شيئًا غير الخراب، ولعل ملالي ايران وحزب الله خير دليل على الإرهاب الديني الذي يدمر منطقة الشرق الأوسط، ويحولها إلى لقمة سائغة تلتهمها الدول الكبرى عن قريب، أو حتى بعد زمن ليس بالطويل!
الثورة السورية عندما هبت ضد نظام الاستبداد، هبت من الجوامع لكونها دور عبادة ورحمة، ولأن نظام الأسد منع كل أماكن التجمع المدني الأخرى وعطّل الحياة السياسية، والفنون والأحزاب، ومنتديات الحوار، ولم يجد الناس إلا الجوامع مكانًا للتجمع، وقد قصدها في بداية الثورة حتى الشيوعيين الذين ذاقوا الويلات في المعتقلات الأسدية، وصاحوا في قلب الجامع الأموي صيحات الحرية الأولى، وهم لم يكونوا إرهابيين ولا طائفيين، ولا يستحقون تحريض نخب السلطة ضدهم، حتى إن صيحة أدونيس كانت مفاجئة للجميع، وهو يدافع عن نظام الاستبداد الحداثوي، بحسب زعمه.
هذه الثورة بينت زيف الكثير من التيارات والأفكار التي سيطرت على الحياة العامة، فقد خرج متطرفو التدين برؤوس ملتحية، ولكنهم بأجساد عقارب سوداء وسامّة، وخرج الكثير من رموز الحداثة والتقدم والاشتراكية برؤوس تقدمية وبأجساد طائفية متوحشة، ولكن لم يعد لأحد القدرة على عودة الماضي الاستبدادي مهما تعاونت قوى الظلام الداعشية والإيرانية، وقوى الاحتلال المختلفة، فالماضي لا يعود ولن يعود أبدًا.. نعم لقد خرج الناس من الجوامع، وصاحوا من أجل الحرية، ولم يكونوا إرهابيين، ولم يكونوا طائفيين، بل لا يزالون يقولون لكم مثلما قال المصلي في نيوزيلندا: أهلا بكم يا إخوتنا..!