عنب بلدي – نينار خليفة
على ذات الجغرافية ينقسم المشهد، وتختلف المصائر، ففي السجون السورية التي تقسم إلى سياسية ومدنية، يبذل النظام جهدًا محمومًا للفت نظر الرأي العام إلى بعض النشاطات الفنية والثقافية التي يقوم بها لسجنائه الجنائيين، لتغطي قتامة المشهد الدموي الآخر المليء بالقتل والتعذيب والإبادة الجماعية.
“مؤسسات إصلاحية تأهيلية ترعى المواهب والفنون”، هكذا يريد النظام أن يُروّج لسجونه المدنية، والتي رغم كونها أقل السجون خطورة على حياة المعتقلين، إلا أنها تضم الآلاف ممن احتجزوا ظلمًا، وتعرضوا لمحاكمات غير عادلة، والكثير من الانتهاكات الحقوقية، وفقًا لمنظمة العفو الدولة.
وتعددت النشاطات التي نظمتها وزارة الداخلية مؤخرًا للمساجين الذين فضلت أن تسميهم نزلاء، والتي “أسهمت بمساعدتهم على تحويل طاقاتهم لمسارات إيجابية ليتحولوا بعدها لمواطنين فاعلين في المجتمع”، وفقًا لما روج لها النظام في وسائل إعلامه الرسمية، “فالفضاء الذي يقيد الحرية في السجن، كما نظن نحن الموجودون خارجه، هو في الواقع فضاءٌ للإبداع والفن والجمال”، بحسب تصريح رئيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا، رياض صالح.
وفي الجانب الآخر سجون عسكرية لم يعد خافيًا على العالم ما تشهده من أحداث مفزعة، تم الكشف عنها من قبل منشقين عن النظام على رأسهم “قيصر” الذي سرب آلاف الصور لمعتقلين قضوا تحت التعذيب وارتُكبت بحقهم مجازر وجرائم وإعدامات خارج القانون، وهو ما دعا منظمات حقوقية لتسمية هذه المعتقلات بـ”المسالخ البشرية” و”مصانع طحن البشر”.
فهل استطاع النظام السوري تبييض صورته من خلال هذه الأنشطة؟ وإشاحة نظر الرأي العام الداخلي والعالمي عما يقترفه من فظائع؟
نشاطات قديمة يُركز عليها مؤخرًا
مسؤولة قسم المعتقلين في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، نور الخطيب، قالت لعنب بلدي، إن هذه الفعاليات كانت تتم في مرحلة ما قبل الثورة السورية عن طريق جمعيات دعم السجناء، ولكن الإعلام التابع للنظام بات يُركز عليها بشكل كبير مؤخرًا.
وأضافت أن السجون المركزية تشهد بين حين وآخر أنشطة يقوم بها سجناء من مختلف التهم الموجهة إليهم والتي غالبًا ما تكون جنائية بالإضافة لمشاركة محدودة لمعتقلين على خلفية الرأي.
ولفتت إلى أن النظام وبزيادة تركيزه مؤخرًا على هذه الفعاليات التي كانت تحصل منذ ما قبل عام 2011، يحاول المناورة لتغييب ما يجري ضمن الأفرع الأمنية والسجون العسكرية من انتهاكات ومشاهد تعذيب وحشية.
وعبرت عن اعتقادها بأن هذه الأنشطة غير قادرة على التأثير بالرأي العام، إذ أن هناك في المقابل عمليات اختفاء قسري ممنهجة وممارسات إعدام وتعذيب ترقى لتكون “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية” ولا يمكنه التفلت منها، بأي شكل من الأشكال.
المعتقلون السياسيون محرومون من النشاطات
مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، ركز من جانبه على الفرق الجوهري بين السجون المركزية المدنية كسجن السويداء وعدرا وحماة والتي يكون غالبية معتقليها على خلفيات جنائية كالسرقات والسلب والنهب وغيرها، والأفرع الأمنية التي يكون غالبية المحتجزين فيها على خلفيات سياسية، مشيرًا إلى أن هذه الفعاليات عندما تُجرى يشارك فيها غالبًا الموقوفون على خلفيات جنائية.
وأضاف أنه عندما كان معتقلًا في سجن عدرا كان يلاحظ أن عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين اعتقلوا على خلفيات سياسية محرومون من الكثير من الميزات التي يحصل عليها المعتقلون على خلفيات جنائية.
ويؤكد الأحمد أنه في الوقت الذي يحق للمعتقلين الجنائيين بالطبع حضور مثل هذه الفعاليات، إلا أن السيئ في الأمر هو أنه لا تكون موجهة للمعتقلين على خلفيات سياسية والذين يحرمون حتى من أنشطة التدريس والتدريب وغيرها، لافتًا إلى أن ما يقوم به النظام هو الترويج بأنه هذا هو حال السجون السورية مستغلًا هذه البروباغاندا لخدمة مصالحه، ولكن ذلك يخالف الحقيقة الجوهرية والتي تخفي ما يتعرض له المعتقلون السياسيون من حرمان وتعذيب، وما يحدث في السجون التي تضم غالبيتهم.
محاولة للمواربة وتشويه الحقائق
الناشطة السورية، حنان حليمة، أشارت من جانبها إلى أن النظام ومنذ بداية الثورة في سوريا عمد على تشويه الحقائق التي تحدث بشكل يومي، وهو ما شمل للأسف حال المعتقلين في سجونه، والذين وصفهم بأنهم هم من يريدون الخراب والدمار لسوريا.
وأضافت أنه مع كل ما يحدث من قصص التعذيب والقتل داخل سجون النظام، فإن جزءًا بسيطًا يصل منها للسوريين أولًا وللمهتمين بالقضية السورية ثانيًا، إذ يظن البعض منهم أن السجون السورية هي سجون إصلاحية أو أنها مخصصة لإعادة تأهيل مرتكبي الجرائم، وهو ما يريد النظام ترسيخه في الأذهان من خلال تسليطه الضوء على النشاطات الفنية والثقافية الحالية التي يقوم بها.
وتابعت أنه للأسف يظهر البعض من داخل هذه السجون ليتكلموا عن مدى أهمية هذه النشاطات وكيف تساعدهم على استغلال وقتهم والتعرف على مواهبهم.
وقد تصل هذه المشاهد لبعض الجهات التي تعمل على ملف المعتقلين على أنها خطوة نحو الإصلاح والتغيير.
ولفتت إلى أنها، من خلال عملها على ملف المعتقلين مع بعض الناجيات، وتحاورها مع بعض الجهات الدولية، لاحظت أن الكثير منهم لا يعلمون شيئًا عن السجون السرية وسجون الأفرع الأمنية والموت المرتكب داخلها.
التغطية على الانتهاكات بحق المرأة في السجون
الصحفية والناشطة الحقوقية سعاد خبية أكدت من جانبها أن جهود النظام التي يبذلها في سبيل تلميع وتحسين صورته أمام الرأي العام، لن تجدي نفعًا بعد كل الفضائح التي طالت سجونه والصور الفظيعة للمعتقلين التي سربت وأظهرت إساءة معاملته لهم، فكل هذه الأخبار المؤكدة قد ظهرت إلى العلن ونُشرت وأصبحت في متناول الجميع.
وركزت خبية على وضع المرأة في سجون النظام والذي يحاول من خلال إبراز النشاطات والأشغال اليدوية والمعارض التي تقوم بها في بعض السجون، التغطية على ما يلحق ببعضهنّ الآخر من انتهاكات، إذ عادة ما يعمد النظام لاستخدام المرأة عبر اعتقالها بدل الذكور، وعبر اغتصابها والتهديد من خلالها.
وهو بذلك يحاول إيصال فكرة أن ما يقال عن السجون وعن سوء التعامل فيها هو كلام خاطئ وغير حقيقي، ويقدم بذلك مادة لمساعدة إعلامه وأبواقه التي تعمل على تجميل صورته ليكون لديهم مادة متاحة لتقديمها للرأي العام.
استغلال النظام لاستعصاء سجن حماة
وعبرت خبية عن اعتقادها أن حالات الاستعصاء التي حدثت في سجن حماة المركزي تندرج ضمن هذا الإطار.
إذ أن النظام عادة ما يستطيع قمع من يريد من المعتقلين سواء في سجونه المركزية الظاهرة، أو حتى معتقلاته المخفية والسرية والتي تشكل الغالبية العظمى، ولكن ومع ما حدث في سجن حماة من تركيز إعلامي كبير على استعصاء المعتقلين وتركهم يبثون رسائل عديدة من داخل السجن، كان يحاول نفي رواية المعارضة بأن هذه السجون مخبأة وسرية ولا أحد يعرف عنها شيئًا، ولذلك فقد ترك المعتقلين يبثون رسائل من داخل السجون ويقومون بأنشطة مختلفة.
وتابعت خبية بأن النظام ومن خلال ذلك كان يحاول إيصال فكرة أنه وكأي نظام ديمقراطي رضخ للمطالب وأطلق سراح المعتقلين، وهو ما يندرج ضمن سياسة التجميل التي يحاول أن يغش بها الرأي العام العالمي، وإقناع الرأي العام السوري على الأقل بأنه فعليًا لا يوجد قضية مركزية اسمها قضية المعتقلين، ولا يوجد عشرات الآلاف من المعتقلين اليوم داخل السجون، لا تتوفر أي معلومات حول أماكن اعتقالهم أو مصيرهم أو أي شيء يمت لهم بصلة.
محاولة للتغطية على الوضع المعيشي السيئ
المدير التنفيذي لمجموعة ملفات قيصر، المحامي إبراهيم القاسم، أكد من جهته أن النظام السوري يحاول بشتى الوسائل إعادة تقديم نفسه على أنه قادر على حكم سورية مرة أخرى، مستغلًا ما حققه من تقدم عسكري على الأرض، باستخدام كافة الأسلحة غير المشروعة بما فيها الأسلحة الكيماوية، وهو لا يوفر أي أمر ليغطي على جرائمه والوضع المعيشي السيئ في المناطق التي تخضع لسيطرته العسكرية مع حلفائه.
وعبر عن رأيه بأن كل هذه الأنشطة والمحاولات البائسة لا يمكنها أن تطمس الحقائق والوقائع المثبتة، حول اتباع النظام سياسة ممنهجة في استخدام العنف بأبشع أشكاله ضد المدنيين، سيما المعتقلين والمعتقلات، إذ أن بضع احتفالات ومعارض داخل السجون المركزية التابعة لوزارة الداخلية (دمشق، حمص، السويداء…( لا يمكنها أن تجمل أو تشوه الحقيقة المثبتة لدى الجميع، ولعل أكبر دليل على هذه الوحشية هي صور الضحايا التي سربها المصور العسكري “قيصر”.
ظروف سيئة داخل السجون المدنية
وأشار القاسم إلى أنه وبموجب القرار “رقم 1222” لنظام السجون والتعديلات اللاحقة عليه، فإن السجون يجب أن تتبع لوزارة الداخلية لا العدل، وهذا بحد ذاته يضع السجناء تحت خطر التعرض للتعذيب، فضلًا عن الظروف السيئة داخل السجون المدنية، إذ أن الطعام الذي يقدم فيها لا يؤمن القيمة الغذائية الكافية للحفاظ على الصحة إلى جانب أن جودة النوعية متدنية جدًا، ويعتبر إعداد الطعام وتقديمه بشكل جيد من الرفاهيات التي لا يمكن الحصول عليها داخل السجون التابعة للنظام السوري.
وفيما يتعلق بمنامة السجناء لا يمكن الحديث عن توفير سرير خاص لكل سجين، كما أن التدفئة غير مؤمنة خلال فصل الشتاء، أما العلاج الطبي فهو يكاد يكون شكليًا إلا في حالات نادرة يتم فيها إرسال المرضى بحالات إسعافية إلى المشافي.
ويضاف إلى ذلك صعوبة زيارة الأهالي وعدم توفر التعليم لمن يرغب في متابعته، وذلك فضلًا عن تسلط بعض عناصر وضباط الشرطة في هذه السجون على المساجين إما بشكل مباشر أو عبر توجيه بعض السجناء الجنائيين للضغط على المعتقلين السياسيين.
ولفت إلى أن هذا بشكل عام هو وضع جميع السجون، والذي يزداد سوءًا في حال كان السجين معتقلًا على خلفية انخراطه في الثورة السورية بعد عام 2011.
وتحدث القاسم عن وضع السجينات والمعتقلات بسجن النساء في ريف دمشق (عدرا)، واصفًا إياه بالسيئ جدًا، إذ أن معظم السيدات يفترشن الأرض مع انعدام التدفئة والأغطية وقلة الطعام وسوء جودة نوعيته، فضلًا عن تعرضهنّ لعدة أشكال من العنف الجنسي، سيما أن معظم المشرفين على السجن هم عناصر وضباط شرطة من الرجال.
وأما بالنسبة للوضع الصحي فتعاني السيدات من نقص توفر احتياجاتهن الخاصة، ويتجه الوضع للأسوأ في حالة كانت المعتقلة أو السجينة حاملًا أو أمًا لطفل رضيع معتقل معها، إذ تم توثيق عدة حالات ولادة داخل سجن النساء دون توفر أبسط شروط الصحة والنظافة، مما أدى لوفاة المواليد أو إجهاض السيدات.
ويضاف إلى ذلك حالات الاختفاء من داخل السجون، كما حصل مع عدد المعتقلين والمعتقلات، مثل باسل خرطبيل من داخل سجن عدرا للرجال، والسيدتان فاتن رجب وسارة العلاو وأخريات من سجن النساء.
وأشار القاسم إلى أن هذا الخطر الدائم داخل السجون أدى لقيام المعتقلين في سجون حماة وحمص والسويداء إلى إعلان اعتصامهم عدة مرات للحفاظ على حياتهم وخوفًا من أخذهم إلى مصير مجهول.
ولفت القاسم إلى أن الوضع في معتقلات الفروع الأمنية هو أسوأ من ذلك بكثير من جميع النواحي، بما يشمل الطعام والمنامة والصحة والزيارات والتعليم، إذ لا يتوفر الحد الأدنى لأي حق من هذه الحقوق.