جريدة عنب بلدي – العدد 28 – الأحد – 12-8-2012
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي… فلا نامت أعين الجبناء).
إنه مذهب ابن الوليد أبي سليمان – رضي الله عنه – في البطولة والإقدام، وهو القائد الشجاع المحنك الذي يرهب جنابه قادة الشرق والغرب في زمنه. وعلى الرغم من كل هذا الإقدام من قلب لا يعرف معنىً للخوف، لم يُعهَد عن سيف الله – رضي الله عنه – خُلقاً غير التواضعِ وخفضِ الجناح للمؤمنين؛ فهو لم يمنَّ يوماً على المسلمين بأنه يدافع عن أرضهم وعرضهم، ولم يقل يوماً لإخوانه: أنا أشجع مقاتل فيكم. ولم يُسمَع منه مرة: (أنا أو لا أحد)، ولم يتوعد ناقداً له بالانتقام. ولم يفرض على الناس الولاء، ولم يقل لهم: مهما عملتوا ما بتوفونا حقنا…! لقد كان يدرك جيداً – رضي الله عنه – كيف أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وأن المجاهد يجب أن يكون في الذروة في كل الأخلاق؛ فهو صادق لا يكذب، أمين لا يخون، شجاع لا يجبن، مقدام لا يعرف لا يتردد، آخر همه الدنيا، عفيف اليد واللسان، نقي القلب والجنان، من أعظم صفاته سلامة الصدر على المؤمنين وشدة البأس على الظالمين، يتجاوز عمَّن ظلمه من إخوانه ويعطي من حرمه، وقَّاف عند حدود الله لا يتعداها، يتقن أداء الجندية ويعرف معنى السمع والطاعة والالتزام بالجماعة في ما يرضي الله تعالى.
كان خالد بن الوليد سيفاً من سيوف الله – تعالى – سلَّه الله على الكفار، وكان – رضي الله عنه – يدرك ذلك تمام الإدراك، وهو الذي لم يُهزَم بمعركة قط لا في الجاهلية ولا في الإسلام. وكان القائد الأعلى لجيوش المسلمين في الشام (وليس قائد مجموعة) وعلى الرغم من كل ذلك لما أخبره أبو عبيدة ابن الجراح بأمر الخليفة بعزله بعد أن كتمه مدة قال له: (يغفر الله لك يا أبا عبيدة؛ أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية؛ فلم تُعْلِمْني وأنت تصلِّي خلفي والسلطان سلطانك)، فقال أبو عبيدة: (وأنت يغفر الله لك، والله! ما كنت لأُعْلمَك ذلك حتى تَعْلَمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله, ثم قد كنت أُعْلِمُكَ بعد ذلك، وما سلطان الدنيا أريد وما للدنيا أعمل، وإنَّ ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان وقُوَّام بأمر الله ، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة إلا من عصم الله، وقليل ما هم.)
هكذا كان أسلافنا يسطرون المجد بفعالهم وأقوالهم ومواقفهم… وبذلك بلغوا ما بلغوا.
إخوتي الثوار! إني محدثكم حديث المحب لكم… تاكدوا أنه لا تغني سلامة النية عن صوابية العمل، بل لا بد من اجتماع الاثنتين معاً ليكون العمل مقبولاً عند الله تعالى، ثم أن تقرنوا جهادكم بكريم الفعال ونبل الأخلاق، وأشعروا الناس أنكم حماتهم، وإياكم والدوران في فلك القائد مهما كان بطلاً شجاعاً مضحياَ، أو حتى المجموعة أو الكتيبة؛ بل كونوا خالصين لله؛ فهو صاحب المنة والفضل علينا جميعاً. ولا يعني ذلك أن نبخس الناس حقهم ولا أن ننتقص من بذلهم وجهادهم وتضحياتهم أبداً.
وليكن التنافس بينكم أيها الأحرار في ميادين الخير والبذل والعطاء والتسابق إلى مرضاة الله، لا في ميادين التعصب والتشاحن والتناحر وما يلقيه الشيطان في النفوس ليفسد الود في ما بينها ويفرق الصف ويشتت الجمع.
إن من أهم المعاني التي يرسخها الجهاد في النفس هي معاني الأخوة؛ فاحرصوا عليها ووثقوا عراها، وكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].