قصة ناقصة في فيلم مكتمل.. عن الآباء والأبناء
نبيل محمد
في جرأة قلَّ مثيلها في كل ما خرج من منتج فني توثيقي عن الحرب في سوريا، بمختلف مراحلها، تعْبر كاميرا طلال ديركي حواجز لم يكن ليحصيها جميعها قبل دخوله بعدّته، ليقيم عدة أشهر بين مقاتلين جهاديين في ريف إدلب، راصدًا حياتهم اليومية، وعلاقاتهم مع أبنائهم الصغار.. جرأة صنعت الشريط الذي نافس في المحفل السينمائي الأكبر دوليًا (جوائز الأوسكار) حيث وصل للقائمة القصيرة لجائزة أفضل فيلم وثائقي، فالمخرج عرف تمامًا أن عدسته يمكن أن تكتب التاريخ في هذه المغامرة، وتسعى لتسجيل شريط سيكون من الصعب عليه انتقاء ساعة أو أكثر مما حملته الكاميرات، إلا أن حرفية المخرج قادته ليدرك بالدرجة الأولى قيمة الحقيقة الناقصة، في صناعة الفن الاستثنائي، وقدرة هذا النقصان على إكمال حضور الشريط في مختلف مهرجانات العالم، وحيازته على جوائز لم تكن متاحة تاريخيًا للسينما السورية شبه الميتة سابقًا.
هنا الآباء يربون أبناءهم التربية الجهادية التقليدية، فقبل معسكر الإعداد الحربي الجهادي، هنالك معسكر منزلي، يرصد طلال ديركي تفاصيله، بكل ما أوتي من قدرة على إقناع اللحى الطليقة والشوارب الحليقة المحيطة به، بأن هذه الكاميرا التي تدور بينهم إنما تمارس الجهاد أيضًا، ستنام تلك الكاميرا مع الأطفال، وترصد أحلامهم، وألعابهم العنيفة في الحي الفقير، ثم ستذهب مع الآباء إلى حقول الألغام، والسجون وساحات الإعدام، ومستشفيات قطع أطرف المصابين، وعيون الأطفال التي ترصد الآباء العائدين من الحرب لينتظروا الأطراف الصناعية على أسرتهم.
مفارقات عدة ستتلاحق لتبني الشريط السينمائي القاسي، بين طفل فاشل جهاديًا سيحمل كتبه ليلتحق بالمدرسة، حيث قوامه البدني لا يتيح له ما أتيح لأخيه الذي سينضم إلى معسكر التدريب، وسيلتقي الاثنان في صورة رمزية لما قد تنتجه طرقات المناطق الحربية، حيث يعبر طفلان من الطريق ذاته، أحدهما يتجه إلى معسكر الجهاد، والآخر قادم من مدرسته يحمل المحفظة، فلا يدرك أي منهما مدى حقيقية ابتسامته وأحقيتها، هل الحظ كان من نصيب الجهادي.. أم التلميذ المدرسي؟
هي سوريا كاستديو كبير، لا شيء سيعيقك عن بناء شريط استثنائي طالما قدرت على تمرير كاميرتك إليه، دع هذه الكاميرا تتنقل كما تشاء في زوايا أي منطقة سوريّة. اترك لها حرية الحركة، ثم جمّع أي مشاهد يمكن أن تختزنها ذاكرتها، لتجد نفسك أمام تحفة سينمائية، صنعتها البلاد التي تنتج المأساة والموت في كل تفاصيل مشكلاتها اليومية، هذا تمامًا ما أدركه المخرج، وما يدركه كل من يعمل في مجال السينما التسجيلية، فالحاجز الوحيد الماثل أمام أي مصور أو مخرج، هو قدرته على شرعنة حضور كاميرته في أي منطقة جغرافية من بلاد الخراب تلك.
أما الحقيقة الناقصة التي عمل المخرج جادًا على استخلاصها من كاميرته، والتي أكدها في مختلف جمل “الفويس أوفر” التي حمّلها للشريط، والتي قد تلعب دورًا مهمًا في حضور الفيلم أنّى شاء مخرجه، هي تغييب المعالم المؤسسة والمرافقة للمضمون البصري السينمائي، فلا الجهادي الذي أقر أمام الكاميرا أنه كان سجينًا عند النظام السوري قدّم أي تفاصيل عن قصته وقصة خروجه من السجن (في وقت لم يعد خافيًا فيه أن سجون النظام السوري خرّجت رجالات الحرب الأعتى، وشخصيات الجهاد الأهم، ليكونوا معامل جهادية تنتج كل ما قدمه الفيلم من تفاصيل)، ولا المدن المدمرة التي مرت بها الكاميرا كان لها مكان لتروي حكاية الطائرات الحربية التي طحنتها، والسكان الذين ماتوا أو هجّروا منها لا بفعل الجهاد، بل بفعل طغيان النظام الحاكم فقط.. لتبقى تلك الحوادث المؤسسة للشريط، ولقصته، إما حبيسة الرشز الذي لم يشأ المخرج استخدامه فاكتمال القصة قد يبني الحواجز أمام الشريط، مقابل تكرار حضور قصة تفجيرات برجي التجارة في الولايات المتحدة أكثر من مرة، ما يعطي الجهاد في إدلب بعده العالمي، ويعيد كل كوادره إلى المنشأ نفسه.
ولربما كانت كل القصص التي لم تروَ أصلًا خارج اهتمام صانع الشريط كليًا. لكن هل من المطلوب من كل مخرج يعمل في سوريا أن يقدم قصة كاملةً؟ وهل على كل مخرج أن يرضخ لتهمة جاهزة هي التركيز على القصص الجهادية الجاذبة لعيون مهرجانات السينما ومحافل الثقافة العالمية، ودور الإسلامو فوبيا التي تملأ الكوكب؟ أسئلة قد يرميها أي مخرج خلفه مهتمًا بقيمة شريطه السينمائي، وقد يهمل قضية دور هذا الشريط في كتابة تاريخ بلد مدمر (قليلون هم من يكتبونه اليوم).. لتكن القصة ناقصة ويكمل الفيلم مشواره، وليكن عبء كتابة التاريخ الحقيقي على عاتق الباحثين، هكذا يقول الفيلم غامزًا بالذهب الذي كان ينتظره.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :