منصور العمري
في 26 من شباط 2015 شهدت أوروبا أول محاكمة لمرتكب جريمة حرب في سوريا، حين وجه القضاء السويدي تهمة التعذيب للسوري مهند الدروبي. كان الدروبي مقاتلًا في “الجيش السوري الحر”، ونشر فيديو على صفحته في فيسبوك، يظهره وهو يقوم بضرب شخص عام 2012، اعتُقد حينها أنه من جيش النظام السوري. اعتقلت الشرطة السويدية الدروبي في السويد، بعد تحققها من الفيديو، دون أن يدّعي عليه أحد وحكمت عليه بالسجن خمس سنوات، على أساس ارتكابه جريمة حرب، أي لأنه عذب أسيرًا.
بعد أن تقدم الضحية السوري من تركيا بالادعاء على الدروبي، ظهر أن الضحية كان منشقًا وقت الاعتداء وأنه كان زميلًا للمرتكب في الجيش الحر. أعيدت محاكمة الدروبي وحكم بثماني سنوات في السجن، لارتكابه جريمة حرب من خلال “أعمال عنف تشبه التعذيب”، وقضت المحكمة بتعويض للضحية بنحو 33 ألف دولار في حكمها قبل الأخير.
هذه الحالة مثال للوضع القانوني والإجراءات القضائية في أوروبا، حيث إن القضاء والشرطة في السويد ودول أوروبية يتحركان دون ادعاء شخصي بالضرورة، أو بانتظار قرار سوري سياسي أو مجتمعي، معارض أو مؤيد، وتؤكد أن سيادة القانون فوق أي اعتبار، وأن للضحية اليد الطولى في محاسبة جلادها، وأن المحاكمة تبدأ إن كان المرتكب موجودًا على أراضيها، بحكم قوانينها الوطنية التي تنص على النظر في أي جريمة لها صلة بالبلد، أي إن كان المرتكب أو الضحية أو الجريمة وقعت في أراضيها. يكفي الإبلاغ عن المرتكب، أو علم الشرطة والقضاء به لتبدأ عملها. ظهرت بعدها عدة قضايا أخرى مرتبطة بجرائم الحرب بسوريا حوكم فيها مرتكبون من جميع الأطراف في سوريا.
قضية الدروبي تشابه حالة العقيد أنور رسلان المسؤول السابق في الفرع 251 التابع لإدارة المخابرات العامة، والذي يعرف أيضًا بفرع الخطيب أو الفرع الداخلي.
كان لرسلان منصب قيادي في هذا الفرع على الأقل منذ عام 2011 حتى “انشقاقه” في كانون الأول 2012. خلال هذه الفترة قُتل في الفرع عدد غير محدد، وثق سيزر منه تحديدًا صور 103 قتلى، شملت أعوام 2011 و2012 و2013، أي أن ثلثي العدد المفترض أنه حدث في أثناء تولي رسلان الفرع. لم يتبوأ رسلان وظيفته في خط إنتاج قتلى التعذيب عام 2011، بل عمل فيه منذ سنوات طويلة.
حسب القوانين الدولية والوطنية، المحاسبة لا تنحصر في مرتكبي الجرائم بأيديهم، فمثلًا لم نسمع أن بشار الأسد قتل شخصًا واحدًا بيده، ولم نرَ حتى اليوم أمرًا موقعًا بيده يعطي أوامر بالتعذيب أو غيره من الجرائم. رغم ذلك بشار الأسد هو المجرم الأكبر في تاريخنا المعاصر. حسب القانون تعتمد مسؤوليته الجرمية على مبدأ مسؤولية القيادة، وهو ما ينطبق على قيادي مثل رسلان، إن لم يكن عذّب أو ضرب معتقلين بيده.
مسؤولية القيادة، والتذرع بتنفيذ الأوامر
يتحمل القائد المسؤولية كالتالي:
إن ارتكب بنفسه الجريمة أو أصدر أمرًا بارتكابها.
إن علم بارتكاب جريمة ولم يحاسب مرتكبها، أي إن عرف بها أو توفرت لديه معلومات تمكنه من استنتاج بأن مثل هذا الانتهاك أو الجريمة كانت ترتكب أو سترتكب.
إن لم يكن يعلم بارتكاب الجريمة، بسبب فشله في اتخاذ إجراءات تمنع ارتكابها، فهو مسؤول أيضًا.
لإثبات مسؤولية القيادة هناك ثلاثة شروط:
وجود علاقة رئيس بمرؤوس.
أن يعلم الرئيس أو لديه الأسباب الكافية كي يعلم بأن واحدًا أو أكثر من مرؤوسيه ارتكب فعلًا جرميًا.
عدم اتخاذ الرئيس التدابير الضرورية لمنع ارتكاب هذه الجرائم.
لا يُقبل قانونًا التذرع بأي أمر صادر من جهة أو شخص أعلى لتبرير جرائم التعذيب والإخفاء القسري، والقتل تحت التعذيب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبها الفرع 251، حسب اتفاقيات مناهضة التعذيب والإخفاء القسري ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وغيرها.
كما تكون عقوبة القياديين أشد من المرؤوسين، لمسؤليتهم الإضافية في كفالة عدم ارتكاب الجرائم حسب القانون الدولي الإنساني والعدالة الجنائية الدولية.
هل ستؤدي محاسبة رسلان إلى عدم تشجيع آخرين على الانشقاق؟
آخر نداء وجهه الجيش الحر للانشقاق كان عام 2013، ونحن اليوم في عام 2019، ولم نسمع بحادثة انشقاق مسؤول واحد منذ سنوات، بل على العكس بدأ بعض رجالات النظام بالعودة إلى “حضن الوطن” بعد فشل تجربتهم الشخصية مع المعارضة.
هل الانشقاق يجُبّ ما قبله من جرائم؟
بالتأكيد لا بالنسبة للقضاء الأوروبي وأي قضاء قادر على تحقيق العدالة، أما في عمليات العدالة الانتقالية فقد يخضع هذا المبدأ للنقاش، حين تكون المحاكم الوطنية السورية هي المسؤولة عن المحاسبة، لتدارك شبه استحالة محاسبة جميع من ارتكب جرائم أو انتهاكات في سوريا بسبب عددهم الهائل. وهنا يأتي دور تحديد ما إذا كانت المحاسبة تشمل رتبًا عليا محددة أو لجرائم محددة، أو مجموعة صغيرة نسبيًا من رؤوس الهيكلية المسؤولة عن الجرائم. رغم ذلك ليس هناك أي قانون أو شرعة تسمح بإجبار الضحية على إسقاط الحق الشخصي في الادعاء، وتبقى المسامحة قرارًا فرديًا للضحايا. كل هذا مرتبط بتحقيق العدالة داخل سوريا، أما خارجها فلا يمكن تطبيق هذه الاحتمالات.
أقرّ رسلان بأنه لم ينشق إلا بعد أن خطف الجيش السوري الحر قريبه وهدد أبناءه كي يترك الفرع. كما أن رسلان اعترف بلسانه حين قال: “كانت مهمتي هي استجواب المعتقلين، كنت في موقف حساس جدًا، لم أكن قادرًا بشكل دائم على التعامل باعتدال مع المعتقلين“.
هل تضر قضية رسلان بالثورة السورية؟
على العكس، منع المرتكبين من تمثيل الثورة أو المعارضة يصب في صالحها، ومن صميم مبادئها، القائمة على رفض الظلم والعمل ضد المجرمين، وطمأنة السوريين أن مهمة المعارضة والثورة حماية السوريين لا جلاديهم.
هل توقيف رسلان ومحاكمته يصب في مصلحة النظام؟
حتمًا لا، بل على العكس، لأن رسلان كان أحد رجالات النظام ورئيس أحد أكثر الأفرع إجرامًا بحق السوريين. ما يخشاه النظام هو تقديم رسلان اعترافات تغرق النظام أكثر بالأدلة على منهجية ارتكابه جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. قد يكون رسلان “الشاهد الملك”، أي الشاهد الذي يثبت تورط رؤوس النظام بإعطاء أوامر ارتكاب الجرائم. إذا تعاون رسلان مع التحقيق وقدم معلومات من هذه النوع فهي تصب في صالح تجريم رأس النظام، القابع في دمشق والمستمر في جرائمه، وهو ما قد يشرح عدم إبلاغ النظام السوري عن أنور رسلان حين علم بوجوده مع وفد الائتلاف في جنيف، أو الحديث عنه في إعلامه أو ملاحقته أركان نظامه الكبار السابقين قضائيًا لما يحملونه من أسرار وأدلة تدينه.
لذلك أي محاولات جانبية لتبرئة رسلان مما اقترفه أو دعمه أو تبييض صفحته من أي طرف، قد تصب في رفع الضغوط عنه، وعدم تعاونه مع التحقيق، وعدم إدانة نظام الأسد بشكل أكبر. والمفترض بالمنشقين اليوم، أن يبادروا إلى الشهادة ضد النظام السوري كجزء مكمل لانشقاقهم الحقيقي وراحة أنفسهم، وهو ما يُعتبر دعم للثورة السورية وواجب تجاه العدالة للضحايا.
هل تشير قضية رسلان إلى استهداف المنشقين؟
بالتأكيد لا، فهناك أعداد ضخمة من المنشقين في أوروبا وغيرها.
أولًا من وجهة نظر القضاء الأوروبي، أي شخص ارتكب جريمة إن كان منشقًا أو غيره، ومهما كانت رتبته ومسؤولياته صغيرة أو عليا، هو عرضة للمحاسبة إن تم الإبلاغ عنه أو الادعاء عليه، أما المنشقون ممن لم يرتكبوا جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو لديهم مسؤولية عنها فليسوا عرضة للملاحقة بالطبع.
بغض النظر عن كل ما ورد أعلاه، هل من حق الضحية أن تدّعي على جلادها؟
بالتأكيد نعم، فهذا حق لا شأن للآخرين وحساباتهم السياسية فيه.
عند إلقاء القبض على أنور رسلان، كانت قد ساعدت في القضية عدة جهات كل بجزء ما، من بينهم المحامي أنور البني والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى ملف صور سيزر الموجود أصلًا لدى جهات قضائية عدة في أوروبا ويعتبر الأرضية في فهم حجم منهجية جريمة الاعتقال والتعذيب، بالإضافة إلى مركز العدالة والمساءلة الذي قدم وثائق أدلة متعلقة بالقضية للقضاء الألماني.
أما تقنيًا فوحدة جرائم الحرب الأوروبية أو اليوروبول في ألمانيا وفرنسا والسويد هي التي قادت التحقيق والاعتقالات في القضية، اعتمادًا على طلب من المدعي العام، وشهادات الضحايا والذين من بينهم المدون حسين غرير، وبموجب القانون الوطني الذي ينص على محاسبة المجرمين على الأراضي الألمانية. استقرت الدعوى في القضاء الألماني لوجود رسلان في ألمانيا.
مراجع
هيومن رايتس ووتش: “هذه هي الجرائم التي نفرّ منها: العدالة لسوريا في المحاكم السويدية والألمانية”
الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري
نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية