«ديرية أخت الرجال كل حرة ديرية بألف خيال»، بهذه الكلمات وصف الشاعر «فرات الدم» نساء دير الزور معبرًا عن دورهن وفاعليتهن بدايات الثورة السورية، عندما شاركن الرجال بالحراك الثوري والفكري وحتى القتال.
ويشهد تاريخ طويل لنساء المنطقة اللاتي نسقن للمظاهرات السلمية والعمل المدني وشاركن في العمل العسكري للجيش الحر، كنقل الذخيرة والسلاح والطبابة والمعلومات؛ لكن دورهن اختلف بعد 4 سنوات من الثورة، حيث تراجعن إلى بيوتهن خوفًا من التنكيل والسجن والتطرف وأصبحن مطاردات وخائفات من المشي في شوارع مدينتهن فهن «عورة يجب دفنها في منزلها».
قيودٌ متعددة فرضت على النسوة، في حال وصفه الناشطون بأنه «ردة حضارية وتخريب منهجي للوعي، ووأد للنساء وهن على قيد الحياة».
سجون متعددة
أمتار قليلة تفصل بين بيت أم محمود وشارع التكايا الذي يضم عددًا من محلات البقالة التي تتبضع منها. لكنها تقول ’’كنت أخرج سابقًا للحصول على حاجاتي اليومية من السوق؛ واليوم بت أخاف من الجلوس على عتبة الدار».
أم محمود، هي إحدى نساء حي الحميدية القلائل اللاتي رفضن الخروج منه رغم تعرضه لقصف قوات الأسد وضيق في الحالة المعيشية الذي أنتجه الحصار، كحال كثير من النساء اللاتي يحملن على عاتقهن إعالة أسرهن، إما لفقدان المعيل أو لكونه يعاني العجز، إضافة إلى وجود عدد كبير من الموظفات والعاملات في المدينة من قبل.
باتت «الخالة» أم محمود تخاف اليوم أن تتخطى عتبة منزلها، بعدما تعرضت لتعنيف وتهديد عدة مرات من عناصر التنظيم، الذين يتجولون في الشارع بشكل مستمر، وتوضح بحسرة «بعد 65 عامًا سمعت من يسبني ويهينني دون أن أستطيع أن أرفع عيني في وجهه؛ لقد ضربني أحدهم بعصا كانت في يده ونعتني بالفاجرة لأني لم أكن أرتدي جرابًا في قدمي»، مضيفةً «عبثًا راحت محاولاتي لأشرح لهم أن بيتي قريب وأني كنت مستعجلةً لإحضار الخضار من مكان قريب’’.
لكن التضييق الذي يواجه أم محمود في الأحياء «المحررة» من ديرالزور، لم يفقدها روح الدعابة فتضيف مبتسمةً «أحدهم اتهمني بالخلوة مع ابن اختي؛ وآخر بأني أريد فتنة الرجال بإظهار كعب قدمي».
وبينما يواجه عددٌ من زوجات وأقارب عناصر التنظيم من النساء العنف المعنوي والمادي، حيث يتعرضن للضرب المبرح دون أن يستطعن البوح أو الشكوى؛ حاولت العديد من الناشطات مساعدة بعضهن عبر علاجهن أو مساعدتهن على الهرب، لكنها تبقى حالات محدودة باحت فيها النسوة بمعاناتهن في الوقت الذي يلتزم القسم الأكبر منهن الصمت.
وهذا ما أشار إليه تقرير مفوضية الأمم المتحدة بشأن أوضاع المرأة في سوريا، والذي أفاد «أن داعش يعزل النساء والفتيات السوريات عن الحياة العامة ويعرضهم لسوء المعاملة».
ويؤكد التقرير الصادر في تشرين الثاني الفائت أن عمليات اغتصاب ترتكب بحق نساء في مناطق التنظيم، كاشفًا عن «تزويج العائلات الخائفة لبناتها القاصرات على عجل خوفًا من تزويجهن بالقوة لمقاتلي التنظيم المتطرف».
غياب «المحرم» يمنعهن من الدراسة والعمل
«سيارة الحسبة التي تتجول في شوارع ديرالزور تنشر الخوف بين النسوة اللاتي رحن يهربن عند رؤيتها»، كما تقول فاطمة، إحدى فتيات حي الشيخ ياسين الحاصلة على ماجستير في التاريخ الإسلامي.
وفاطمة اليوم سجينةٌ في بيتها لا تستطيع الخروج وإكمال الدراسة بسبب غياب «المحرم» فهي وحيدة أبويها، وقد استشهد والدها العام الماضي نتيجة قصف نظام الأسد المستمر على المدينة.
معاناة فتيات ديرالزور لا تكاد تتوقف عند مطالبتهن بالمحرم عند التنقل، بل تمتد لتشمل خروجهن وتعليمهن ولباسهن، كما تصف فاطمة «يتضايق عناصر التنظيم من النساء العاملات وهن موضع اتهام في أخلاقهن وصِلاتهن مع التنظيم، مضيفةً بغضب «إنهم يفضلون النساء مسجونات في المنازل وجاهلات، فالنساء في فقههم لسن إلا وعاء لإلقاء المني فيه».
وعليه، تراجع النشاط النسوي في ديرالزور بشكل كبير منذ أن بسط التنظيم سيطرته في شهر تموز من عام 2014.
رزان، فتاة من حي العرضي، كانت تعمل مع عددٍ من النساء في منظمة خيرية تشرف على إغاثة العوائل وتعليم الفتيات، إضافة إلى نشاطها في المجال الطبي، لكنها اليوم أوقفت كل ذلك ’’أصبحت مسجونة في بيتي وفي ثيابي وأخاف من التهم الجاهزة والعيون التي تلاحقني في كل مكان».
خوفٌ مضاعف يغزو قلوب الأهالي حول مصير بناتهن التعليمي والحياتي من جهة، وحول مستقبلهن الغامض تحت يد التنظيم من جهة ثانية.
حواجز نسوية
وبينما كثف التنظيم حواجزه حول المدينة وضاعف من عناصره، عزز تلك الحواجز بعناصر نسوية تتولى تفتيش النسوة بشكل دقيق عبر 3 حواجز عند مدخل المدينة، تنتشر عليها أكثر من 20 امرأة مجهزات بالسلاح.
وهؤلاء النساء في الغالب أقارب المقاتلين «المهاجرين» أو زوجاتهم، وبينهن نساء محليات ممن انخرط أزواجهن أو أحد أفراد عائلاتهن في صفوف التنظيم، وذلك إما طلبًا لمورد مالي أو رغبةً في الحصول على بعض المنافع التي يوفرها الانتساب، من الحصول على مواد الغذاء وجرات الغاز بشكل دوري إضافة إلى مرتبات ومكافآت من التنظيم، أو «طاعةً لله» وفق تعبيرهن.
وتصف فاطمة، إحدى النساء المقيمات في حي العرضي، تصرفات الحواجز النسوية بالقول ’’هؤلاء النسوة بلا أي قلب؛ غالبًا يشتمن ويتصرفن بفضاضة ويفتشن ثياب النساء وحقائبهن بشكل مهين».
فاطمة التي ترى أن النساء المحليات يبتعدن بأنفسهن عن هولاء النسوة اللاتي يشكلن أقلية «منبوذة» في المجتمع، لكن «المال هو حافز أولئك النسوة إضافة إلى المكانة السلطوية التي يوفرها الانتساب للتنظيم وعدد قليل منهن يتبنين أفكار التنظيم المتطرفة».
وتشهد الحركة النسوية داخل التنظيم حراكًا واسعًا وبخاصة بعد تشكيل كتيبتي أم الريان والخنساء إضافة إلى إشراف النساء على أعمال الدهم والاعتقال والتفتيش؛ حيث سخرت النساء ليكنّ أدوات للقتل والقمع، وأصبحن يمتلكن وظائف محددة داخل التنظيم الذي يدعو نساء العامة للبقاء في بيوتهن ويضيق عليهن.
نصف حياة
حقوق أساسية كفلتها الديانات السماوية وضمنتها شرائع حقوق الإنسان ونصت عليها مبادئ القوانين الدولية ونبهت إلى وجوبها الأمم المتحدة، لكن الحرب وما نتج عنها من فوضى وجهل وتشدد غيبتها عن نساء مدينة دير الزور.
تغييرٌ في المفاهيم الحضارية والتاريخية والعادات الاجتماعية لدور المرأة الفراتية التي طالما شاركت الرجال في ميادين العمل والحياة، وربما تفوق الرجال في أعمالها وبخاصة النساء في ريف ديرالزور، حيث تحتل المرأة دورًا بارزًا في تفاصيل الحياة الريفية والزراعة.
ويصف أحد ناشطي المدينة (رفض التصريح باسمه) أوضاع النساء اليوم بالقول «فقدت الإناث في زمن داعش الكثير من حقوق التعليم والمساواة والعمل التي باتت بعيدة المنال في ظل انتشار ثقافة البرقع والسجن والخوف’’.
ويردف الناشط الذي تعرض للسجن والضرب على يد عناصر التنظيم لأنه شارك في إحدى المظاهرات التي نظمتها عددٌ من النسوة أمام مقر الحسبة «تريد داعش إنهاء الحديث عن المرأة نصف المجتمع والحديث عن المرأة نصف العقل في ظل هيمنة المجتمع الذكوري، واجترار الماضي صورة وشكلًا والبعد عن العمق الفكري للدور النسوي، وأخذ تطورات الزمان وتغيرات المكان في عين الحسبان».
لم يبقَ في ذهن الناشطة «س»، وهي من حي الجبيلة، من وهج الثورة سوى الآهات المكبوتة تستصرخ الأخوة والأهل خوفًا من سبيٍ يشمل الأرض والعرض والتاريخ ويمحو الحضارة، مرردةً أغنيتها الفراتية المحببة
’’صرخة غضب تنخاني صوت الحرة ناداني.. خلِّصني من عدواني’’.