ضياء عودة | نور عبد النور | رهام الأسعد | مراد عبد الجليل
في السابع عشر من شباط الماضي ألقى رئيس النظام السوري، بشار الأسد، خطابًا أمام رؤساء المجالس المحلية في سوريا هاجم فيه تركيا ورئيسها، رجب طيب أردوغان، واصفًا إياه بـ “الإخونجي” الذي يحاول الظهور بمظهر “صانع الأحداث”، مضيفًا أن أردوغان “أجير صغير عند الأمريكيين، والتركي يستجدي الأمريكي للدخول إلى شمالي سوريا منذ اليوم الأول للأزمة”.
وفي وقت يدور فيه الحديث عن إعادة تأهيل الأسد وتصفير المشاكل وفتح قنوات مع دول في المنطقة، يؤسس هجومه على أردوغان وتركيا لترسيخ العداء بين الطرفين، خاصة مع الظرف الحالي الذي يمر فيه الملف السوري والحديث عن تشكيل اللجنة الدستورية بدفع من تركيا وروسيا وإيران، وما يوازيها من التحركات بشأن المنطقة الآمنة التي تريد تركيا إنشاءها على الحدود.
هذا الخطاب “الفج” الذي يطلقه النظام السوري، تقابله سياسة تركية مزدوجة باتجاهين، الأول يتجلى بتصريحات المسؤولين، وفي مقدمتهم أردوغان، التي تتهم الأسد بالإجرام وقتل شعبه وتهجير الملايين وتطالب برحيله عن الحكم، والاتجاه الثاني تصريحات تثير الجدل عن ماهية العلاقة بين الطرفين وبقاء التواصل الاستخباراتي بحده الأدنى بين دمشق وأنقرة، ومن أبرز هذه التصريحات ما قاله وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في كانون الأول الماضي، بأن بلاده قد تفكر بالعمل مع بشار الأسد، في حال فاز بانتخابات ديمقراطية.
هذه العلاقة المضطربة بين جارين يشتركان بشريط حدودي طوله 822 كيلومترًا، لم تكن وليدة التعاطي التركي مع الثورة السورية ضد نظام الحكم بعد عام 2011، فإذا استثنينا “الفترة الذهبية” مطلع الألفية الجديدة، شابت العلاقة مراحل من التوتر والقطيعة الدبلوماسية والقضايا الخلافية.
ولرسم صورة أوضح تستشرف مستقبل العلاقة بين الدولتين، تحاول عنب بلدي في هذا الملف استعراض العلاقة تاريخيًا والإجابة عن أسئلة مفتوحة حول إمكانية عودة العلاقات والدور الذي يمكن أن يلعبه حلفاء الأسد للضغط في هذا الاتجاه، خاصة روسيا وإيران، اللتين تتمتعان بعلاقات واتفاقيات وثيقة مع تركيا.
“حرب باردة” وقضايا خلافية
مرت العلاقة بين تركيا وسوريا بثلاث مراحل منذ تأسيس الجمهورية التركية، وبرزت عدة قضايا خلافية بين الطرفين كانت سببًا للدخول فيما يسمى بالحرب الباردة على مدى عقود القرن الماضي.
ففي أيار 1937 أصدرت “عصبة الأمم” قرارًا بفصل لواء اسكندرون عن سوريا وتعيين حاكم فرنسي عليه، وفي تموز 1938 دخلت القوات التركية مدن اللواء وتراجع الجيش الفرنسي إلى أنطاكية، وفي 1939 نظم الفرنسيون استفتاء في الإقليم أيد المشاركون فيه الانضمام إلى تركيا في ظل مقاطعة السكان العرب للاستفتاء، وعقب استقلال سوريا وجلاء الفرنسيين استمرّت مشكلة لواء اسكندرون.
وبقيت قضية اللواء نقطة خلافية بارزة بين سوريا وتركيا، تستخدم كأداة ضغط في الأزمات العالقة، ففي تسعينيات القرن الماضي، استخدم النظام السوري قضية اللواء للضغط على تركيا، إثر المشاكل حول نهر الفرات وعمليات حزب “العمال الكردستاني” ضد تركيا التي كانت تُشنّ من سوريا.
المياه.. ورقة الضغط التركية
شكّل نهر الفرات عقدة في وجه العلاقات بين سوريا وتركيا، وأداة ضغط سياسية في جميع القضايا الخلافية.
ينبع الفرات من هضبة أرمينيا في تركيا ويمرّ في سوريا والعراق، ما يعني أن تركيا تتحكم بشكل أساسي في كميات الضخ والمنسوب، ولذا استخدمت تركيا النهر كورقة تفاوضية مع سوريا منذ منتصف القرن الماضي، واستمرت أزمات المياه والاتفاقيات الثنائية لحلها تتكرر على مدى عقود لاحقة.
في عام 1954 اعترضت تركيا على مشروع أديب الشيشكلي، الذي كان حينها رئيسًا للجمهورية العربية السورية، بتوزيع أراضي الدولة في الجزيرة السورية، بدعوى وجود ملكيات تركية فيها، فاستأنفت مشروع تحويل مجرى نهر جغجغ في شمال شرقي سوريا، الذي كانت قد بدأته عام 1941، ما جعل النهر يجف في الصيف ملحقًا أضرارًا كبيرة بزراعة الأرز والقطن، وفي عام 1958 قطعت تركيا مياه نهر جغجغ كليًا، ولم تعد تصل إلى القامشلي سوى بعض المياه المتسربة من الوديان الفرعية.
بعد أكثر من 25 عامًا، كانت قضية “حزب العمال الكردستاني” في واجهة العلاقات السورية التركية، وكانت تركيا تحاول إقناع النظام السوري بالتخلي عن دعمه للحزب الذي تعتبره “إرهابيًا” ويهدد أمنها القومي، فوقعت بروتوكول تعاون مع سوريا عام 1987، نصّ على تمرير 500 م3/ثا من مياه نهر الفرات إلى سوريا، لكن النظام لم يتجاوب حينها مع المطلب التركي بالتخلي عن حزب “العمال”، فماطلت تركيا في ضخ الكميات المحددة من المياه، ليبدأ النظام السوري بتنفيذ مشروع سدّ على نهر العاصي الذي يمرّ في سوريا ويصب في خليج السويدية ضمن لواء اسكندرون، ما أدى إلى جفاف مساحات واسعة من الأراضي التركية قرب مجرى النهر.
حاولت تركيا حلّ أزمة مياه العاصي بالتوصل إلى اتفاق حول العاصي والفرات، لكن النظام اعترض لكون ذلك يعني اعترافًا سوريًا بالسيادة التركية على لواء اسكندرون، الذي اقتطعته تركيا عام 1939 من الأراضي السورية.
الأزمة الكبرى فيما يخصّ المياه بين سوريا وتركيا تأججت عام 1990 حين حوّلت تركيا مياه نهر الفرات لمدة شهر كامل لملء سدّ أتاتورك، فاحتجّت سوريا على انخفاض منسوب النهر بين الحدود الشمالية وبين بحيرة الأسد بمقدار ثلاثة أمتار، وأضر ذلك بزراعة المحاصيل الشتوية.
وتمت تسوية الخلاف بتوقيع اتفاق أمني بين البلدين عام 1992، لكن الاتفاق تعطل لمواصلة تركيا مشاريعها على الفرات.
الكرد.. ورقة الضغط السورية
منذ بدء العمل السياسي الكردي في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، واجهت الحركات الصاعدة ضغوطًا كبيرة من السلطات السورية المتعاقبة، وقوبل المشروع السياسي الكردي بالقمع والاعتقالات، ما أجبر الحركات الكردية في الغالب على العمل بشكل سرّي بعيدًا عن أعين السلطة.
واستمرّ هذ القمع حتى بداية تسلم “حزب البعث” السلطة في سوريا، وتنصيب حافظ الأسد رئيسًا، لكن فترة الثمانينيات شهدت تحولًا نسبيًا من قبل الأسد تجاه الكرد. ففي أواخر السبعينيات ومع تصاعد أزمة المياه بين الجارتين، احتضن الأسد زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، الذي كانت شعبيته تتصاعد في سوريا آنذاك، في سبيل الضغط على تركيا. كما سمح الأسد لحزب العمال الكردستاني بإطلاق عملياته العسكرية ضدّ الجيش التركي من قواعد له شمالي سوريا.
أدت تلك العمليات إلى تحرك الجيش التركي، وشن عمليات ضد الكرد في تركيا، كما أقام الأتراك عام 1985 شبكة من الأسلاك الشائكة على الحدود مع سوريا.
في تلك الفترة، انضم عدد كبير من الشبان الكرد السوريين إلى صفوف “حزب العمال”، وبات الحزب الذي اتخذ من مدينة القامشلي في شمال شرقي سوريا قوة حليفة رئيسية للنظام السوري في المجتمع الكردي وفي الجزيرة السورية.
حاولت تركيا احتواء الموقف مع تصاعد قوة “حزب العمال”، وزار الرئيس التركي الأسبق، تورغوت أوزال، سوريا عام 1978، ورغم توقيع بروتوكول تعاون لحل أزمتي المياه ودعم النظام السوري للحزب، لم تنفذ بنود الاتفاق من الجانبين.
وفي الفترة اللاحقة تصاعدت الأزمات بين سوريا تركيا، وتقاربت تركيا مع إسرائيل للضغط في قضية أوجلان، ووصلت الأمور إلى حد المواجهة العسكرية عندما بدأت أنقرة بحشد قواتها على حدودها الجنوبية، وهددت الأسد الأب بضرورة الإقلاع عن دعم “حزب العمال الكردستاني” وطرد زعميه، وإلا فإنها مضطرة لاتخاذ ما يلزم لحفظ أمنها القومي مع التهديد باجتياح الجانب السوري.
لكن الوساطات الإقليمية والدولية وخاصة مصر أنهت الخلاف بتوقيع اتفاقية أمنية، باتت تعرف بـ”اتفاق أضنة” في 1998، ليتم إبعاد أوجلان من سوريا إلى روسيا، في أواخر التسعينيات، وينتقل بعدها إلى إيطاليا ثم إلى كينيا، لتختطفه تركيا في عام 1999، وبذلك خسرت سوريا واحدة من أكبر أوراق الضغط على تركيا.
تصفير المشكلات وفتح الحدود
ربما تلخص عبارة “أشعر أنني بمنزلي” التي قالها رئيس النظام السوري، بشار الأسد، خلال زيارته الثانية إلى تركيا في 2007، الفترة الذهبية التي مرت فيها العلاقات السورية- التركية خلال العقد الأول من الألفية الجديدة.
الاتفاقية الأمنية (اتفاق أضنة) كانت نقطة تحول رئيسية في مسار العلاقات بين البلدين، وبدأت الزيارات المتبادلة بينهما على مستوى مسؤولين أمنيين وعسكريين وسياسيين، كان أولها حضور الرئيس التركي آنذاك، أحمد نجدت سيزر، جنازة الأسد الأب في عام 2000، وهو ما كان مؤشرًا على علاقات جديدة مع سوريا.
استطاعت تركيا فك الجمود مع سوريا وأحدثت نقلة نوعية مع جارتها التي كانت نافذة أنقرة لدخول العالم العربي، وتجسد ذلك أكثر مع وصول حزب العدالة والتنمية برئاسة الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، إلى السلطة في 2002، لتبدأ عقبها مرحلة بناء العلاقات وتوقيع الاتفاقات.
وتعكس حركة الزيارات المتبادلة على مستوى رفيع بين المسؤولين حالة التوافق السياسي، إذ زار بشار الأسد تركيا مرتين في 2004 و2007، كما زار تركيا سرًا لقضاء إجازة مع عائلته في بودروم في آب 2008 في ظل نفي رسمي.
وفي المقابل زار مسؤولون أتراك سوريا عدة مرات، وكان في مقدمتهم الرئيس سيزر في 2005، والرئيس عبد الله غل في أيار 2009، أما رجب طيب أردوغان فقد طور علاقته الحميمة على المستوى الشخصي والعائلي مع الأسد وزوجته أسماء، وزار مع زوجته مدينة حلب خلال افتتاح “استاد حلب الدولي”، كما زار العاصمة دمشق في كانون الثاني 2009.
تطبيع العلاقات بين البلدين وصل إلى ذروته عندما تم تأسيس مجلس “التعاون الاستراتيجي التركي- السوري” الذي أبرم في 2009 اتفاقيات حيوية، إذ وقع الطرفان ما يزيد على 30 اتفاقية وعشرة بروتوكولات ومذكرات تفاهم، تشمل مجالات الدفاع والأمن والاقتصاد والصحة والزراعة والري والبيئة والكهرباء والنفط والنقل، وتلغي تأشيرات الدخول بين الدولتين.
تحت غطاء هذا التقارب، سلم النظام السوري منذ 2003 ولغاية 2009، 122 شخصًا بينهم 77 شخصًا من “حزب العمال الكردستاني”، بحسب ما قال وزير الخارجية التركي آنذاك، أحمد داوود أوغلو، خلال زيارته إلى دمشق في تشرين الأول 2009.
قطيعة بعد 2011.. نظرة استشرافية إلى المستقبل
مع اندلاع الثورة السورية في 2011، بدأت تركيا بتوجيه النصائح إلى الأسد لإجراء إصلاحات ديمقراطية وإيقاف كل أشكال العنف وإراقة الدماء، وأعرب أردوغان حينها، بعد يوم من إيفاد وزير الخارجية داوود أوغلو إلى سوريا في 9 من آب 2011 ولقائه الأسد لمدة ست ساعات، عن أمله بأن تتخذ سوريا خطوات للإصلاح خلال عشرة أو 15 يومًا، الأمر الذي لاقى رفضًا من المحتجين السلميين الذين رفعوا لافتات كتبوا فيها: “15يومًا كافية لقتلنا يا أردوغان”.
المحلل التركي، فراس رضوان أوغلو، اعتبر أن تركيا لم تكن تريد تغيير النظام السوري في بداية الأمر، وإنما كانت تريد إصلاحات حقيقية وإقحام المعارضة السياسية في الحكم، الأمر الذي رفضه الأسد حينها عندما قال في مقابلة تلفزيونية في 22 من آب 2011، “إن الموقف التركي غير واضح، قد يكون سببه الحرص على سوريا أو الخوف مما يجري أو ربما يحاولون لعب دور على حساب سوريا”، مضيفًا، “إذا كانت تركيا تريد أن تلعب دور المرشد فهذا مرفوض ولن نسمح لأي دولة بالتدخل في شؤوننا، وهم يعرفون أن في كل نية من النوايا لدينا أسلوب للتعامل معهم”.
وأدت التصريحات إلى انتقال أنقرة من المعسكر الداعي للإصلاح إلى المعسكر المناهض للأسد الداعي لرحيله، والداعم للمعارضة السياسة عبر السماح لها بتشكيل منصات معارضة على أراضيها، قبل شنها عمليات عسكرية داخل سوريا ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في معركة “درع الفرات” بريف حلب الشمالي في 2016، وعملية “غصن الزيتون” في عفرين، ضد “وحدات حماية الشعب” (الكردية) في 2018.
هل تعود العلاقات السورية- التركية؟
مع التحركات التي تعمل عليها تركيا في الشمال السوري سواء في إدلب أو ريف حلب أو شرق الفرات، ومحاولة روسيا تصدير النظام كطرف أساسي يجب أن يكون شريكًا في أي تحرك، تتجه الأنظار إلى احتمالات عودة العلاقات بين الطرفين، خاصةً عقب طرح “اتفاق أضنة” الذي يعتبر النظام طرفًا أساسيًا فيه، وقرب الحديث عن حل سياسي تسير فيه تركيا إلى جانب روسيا وإيران في مسار “سوتشي” و”أستانة”.
وفي قراءة سريعة للوضع العام للعلاقة بين تركيا والنظام، نجد أن الأولى دعمت المعارضة السورية وقدمت دعمًا عسكريًا وماليًا للفصائل العسكرية العاملة في ريف حلب الشمالي المنضوية في “الجيش الوطني”، فضلًا عن أنها استقبلت أكثر من ثلاثة ملايين سوري في أراضيها، وأصبحت ملاذًا أساسيًا لمناهضي النظام السوري، والذي يعتبر تحركاتها داخل سوريا “احتلالًا”، وهو ما يناقض الموقف الروسي الذي يعتبر دخول الجيش التركي إلى سوريا مشروعًا لحماية الأمن القومي.
لم يقتصر النشاط التركي على النفوذ في الشمال السوري، بل دخلت تركيا بقوة في المسار السياسي خاصة بعد تراجع مسار “جنيف”، عن طريق محادثات “أستانة” ومسار “سوتشي” الذي تقوده روسيا، بمعنى أنها أصبحت ذات مكانة لا تقل أهمية عن بقية اللاعبين، ويرتبط ذلك بأوراق القوة التي أمسكتها في سوريا المتمثلة بالإدارة الكاملة من جانبها لمناطق ريف حلب الشمالي والانتشار العسكري المتمثل بـ 12 نقطة مراقبة في محافظة إدلب.
عدة مراحل مرت فيها العلاقة بين النظام السوري وتركيا، بحسب البروفيسور خطار أبو دياب، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس والخبير والباحث في الجيوبولوتيك، والذي يقول إنه عند انطلاق الحراك الثوري كانت تركيا على علاقة طيبة وجيدة بالنظام، والذي كان يروج عبر وسائل إعلامه منذ 2010 لما أسماه بيوم “المحيطات الخمسة”، والمحور الذي يمتد من أنقرة إلى موسكو وطهران.
ويضيف أبو دياب لعنب بلدي أن الدور التركي في سوريا كان دومًا مقيدًا بسقف أمريكي، وفي السابق كانت مؤسسة الجيش التركي غير مقتنعة بسياسات أردوغان إلى أن ضبط الوضع العام في تركيا، انطلاقًا من إفشال الانقلاب.
عقب الانقلاب كان هناك ضوء أخضر أمريكي وروسي لتركيا للقيام بعملية “درع الفرات” والتي سيطرت بموجبها على مناطق في ريف حلب الشمالي، ومن بينها جرابلس والباب، لكن إثر الهزيمة في مدينة حلب (التي كانت تسيطر عليها المعارضة) كان هناك إدراك بأن الجانب التركي دخل عالم التفاهمات مع الجانب الروسي، بحسب أبو دياب.
ويوضح أنه منذ ذلك الحين وجد الجانب التركي نفسه في موقع “البين بين”، في “أستانة” مع روسيا وإيران، وأيضًا بقي على دعمه لفصائل المعارضة، وبموازاة ذلك هو عضو فاعل في حلف شمال الأطلسي.
مع الوقت وتوسع عمل الروس والإيرانيين على الأرض والتراجع الكبير من الغوطة الشرقية إلى الجنوب وصل الأمر بمحور روسيا- إيران لمطالبة تركيا بحسابات معينة، لكنها تمكنت حتى الآن من ضبط الأمور، وخاصةً في إدلب بموجب اتفاق “سوتشي”، الموقع في أيلول 2018.
بيئة غير مستعدة
حاليًا، ومع الوصول إلى نقطة الحسم في الشمال السوري وشرق الفرات، يقول أبو دياب، “يبدو أن طهران كما موسكو تطرحان على أنقرة وجوب التطبيع مع النظام السوري، لتكمل البرهة في سوريا، لكن البيئة غير مستعدة، بمعنى ليس هناك استعداد، لا من النظام ولا من تركيا، لهذه الخطوة”.
ويعتقد الباحث أنه توجد حسابات لكل طرف (النظام، تركيا) تختلف عن الطرف الآخر، فالنظام السوري الذي يناور بين موسكو وطهران قادر على الاستمرار بالمناورة والتهرب من الالتزامات، لأنه لا يريد حتى 1% من الإصلاح، فهو “نظام كل شيء واللاشيء”، بحسب تعبير الباحث، الذي يشير إلى أن أردوغان وفي حال المصالحة مع النظام السوري سيفقد كل الاستثمار الذي قام به لدى فئات من السوريين.
ويرى أن النظام وتركيا يمكن أن يتجها إلى تصفير المشكلات من الناحية الأمنية فقط، لكن من الناحية السياسية فأردوغان مضطر للتمسك بالموقف الغربي، بمعنى أن وثيقة جنيف 2012 هي المدخل للحل السياسي.
وما يسهل مهمة الجانب التركي في عدم الاستعجال في التطبيع هو أنه عندما بدأت بعض الدول العربية بعودة علاقاتها مع النظام، كان هناك جواب أمريكي بالرفض، حتى إن مصر خافت من الاندفاع، ولم ترسل الإمارات سفيرًا، وكذلك لم تبدِ السعودية أي مبادرة.
ويوضح أبو دياب أن تركيا يهمها الأمن القومي ومسألة ألا تكون ذلك اللاعب الخاسر في سوريا، ولا سيما أن روسيا وإيران اقتطعتا مناطق نفوذ داخل الأراضي السورية، وبالتالي تريد تركيا منطقة لها على الحدود خالية من أي تهديد.
ومن وجهة نظر الباحث، فـ”حاليًا هناك نوع من الحفاظ على الوضع القائم، ولا أظن أن تكون هناك عجلة من النظام وتركيا للوصول أبعد من ذلك”.
ويتوافق حديث أبو دياب مع حديث المحلل السياسي التركي فراس رضوان أوغلو، الذي يرى أن احتمالية عودة العلاقة بين النظام وتركيا بعيدة جدًا، ولا يوجد حتى تفكير بها، موضحًا أنه لا يمكن لتركيا أن تصفّر المشاكل مع كيان سياسي غير موحد في سوريا، والتي باتت مقسمة في “ثلاث سوريات”.
ويقول رضوان أوغلو لعنب بلدي إن تركيا ليست مضطرة لإعادة التطبيع مع النظام، ولا توجد أسباب مباشرة لهذا التوجه، إلا في حال إقرار الدستور الجديد ودخول المعارضة بشكل قوي في نظام الحكم المستقبلي.
ومنذ انطلاقة الحراك الثوري في سوريا حتى اليوم لم تعطِ تركيا أي شرعية للنظام السوري، ويمكن ربط التواصل الأمني بين الجانبين بطبيعة عمل مؤسسة أي دولة مع مؤسسات دولة أخرى، بمعزل عن نظام الحكم القائم، ومن وجهة نظر المحلل فإن “الاعتراف السياسي يختلف عن مؤسسات الدولة”.
التطبيع تحت الضغط؟
بعيدًا عن الموقف الذي يبديه النظام السوري بمعاداة تركيا واعتبار وجودها في سوريا احتلالًا، يبدو أن حلفاءه الروس والإيرانيين يحاولون إعادة العلاقات، في سياق الإجراءات التي يقومون بها بعد سنوات من الحرب و”هزيمة المعارضة” في عدد من المناطق الاستراتيجية في سوريا وأهمها مدينة حلب وأرياف دمشق ودرعا.
وكان “اتفاق أضنة” الذي طرحته روسيا في الأشهر الماضية على هوامش الحديث عن المنطقة الآمنة على الحدود خير دليل على محاولة إعطاء النظام السوري “شرعية” من البوابة التركية التي تعتبر الطرف الأساسي في الاتفاق الموقع عام 1998.
وبينما تمسك روسيا بعدة أوراق ضغط قد تستخدمها في سبيل التقارب بين النظام وتركيا، ومن بينها محافظة إدلب ومناطق شرق الفرات، تضع تركيا أوراقًا لصالحها قد تكون نافذة للتمسك بالمسار الذي تريده دون الخضوع للضغوط.
ويقول البروفيسور خطار أبو دياب إن أنقرة تملك أوراق ضغط، وليس من مصلحة موسكو أن تخسرها، بل تفضل أن تبقى تركيا “حائرة” مع بقائها في الحلف مع أمريكا.
ويرى أن موضوع الضغط على تركيا لإعادة التطبيع يحتاج إلى بيئة أفضل من الوفاق الدولي في إعادة تأهيل النظام السوري، وبالتالي سيصعب على الروس ممارسة الضغوط على أنقرة.
وفيما يخص إيران ودورها في مسار إعادة العلاقات، يوضح الباحث أن طهران عرضت على أردوغان أن تلعب دور الوسيط في ذلك، لكن هدفها هو أن يستكمل النظام السوري سيطرته على جميع المناطق في سوريا، “فهي تحاول احترام بعض المصالح التركية لكن “برؤية أن تدمج تركيا تحت راية المحور الإيراني وهذا الأمر صعب”، مشيرًا إلى أن أردوغان يناور كما إيران من أجل حفظ المصالح.
اتفاقيات أنهت أزمات وأخرى وطدت علاقات.. ماذا حل بها؟
لم يخلُ القرن الماضي من العلاقات السورية- التركية من توتر بات سمة دبلوماسية بين الدولتين اللتين تتشاركان حدودًا على طول 822 كيلومترًا، لكن تخللته فترات سعى خلالها الجانبان إلى تجاوز الخلافات الحادة عبر عقد اتفاقيات في مختلف المجالات، بعضها لا يزال ساريًا والآخر أُبطل بموجب التغييرات على الساحة السورية.
ونستعرض هنا أبرز الاتفاقيات الاستراتيجية المبرمة بين تركيا وسوريا، خلال فترة حكم آل الأسد.
اتفاقية “الفرات” لحل أزمة المياه
وقعت تركيا مع رئيس النظام السوري السابق، حافظ الأسد، بروتوكولًا رسميًا في تموز عام 1987، لحل أزمة تقاسم مياه نهر الفرات، الذي تتشارك الدولتان فيه، إلى جانب العراق.
البروتوكول ينص على إطلاق تركيا 500 متر مكعب في الثانية من مياه الفرات، الذي ينبع من أراضيها، على أن تكون قابلة للزيادة مستقبلًا بحيث تصل إلى 700 متر مكعب.
في حين أبرم النظام السوري مع العراق اتفاقية مماثلة عام 1989 تنص على تقاسم المياه التي تضخها تركيا إلى سوريا، بحيث تكون للعراق نسبة 58% ولسوريا نسبة 42%.
وفي عام 1994، سجّل النظام السوري البرتوكول السابق لدى الأمم المتحدة، ليصبح اتفاقية رسمية تضمن حقوق الدول الثلاث في مياه نهر الفرات، ولا يزال العمل بالاتفاقية ساريًا حتى اليوم، رغم توجيه اتهامات إلى تركيا بخفض الكمية التي تضخها، الأمر الذي تنفيه الأخيرة.
“اتفاق أضنة” يعود إلى الواجهة
أُبرم “اتفاق أضنة” بين تركيا وسوريا، عام 1998، عندما توترت العلاقة بين البلدين على خلفية دعم النظام السوري ورئيسه حينها، حافظ الأسد، لزعيم “حزب العمال الكردستاني”، عبد الله أوجلان.
ونص الاتفاق على تعاون البلدين في مكافحة الإرهاب، وإنهاء دمشق جميع أشكال “حزب العمال” وإخراج زعيمه أوجلان، وإعطاء تركيا حق “ملاحقة الإرهابيين” في الداخل السوري حتى عمق خمسة كيلومترات، و”اتخاذ التدابير الأمنية اللازمة إذا تعرض أمنها القومي للخطر”.
وطُرحت الاتفاقية مؤخرًا، حين طالب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في كانون الثاني الماضي، بإعادة مناقشتها مع سوريا، في ظل عزم تركيا على إقامة منطقة آمنة شمالي سوريا بعمق 32 كيلومترًا، أي بزيادة 27 كيلومترًا عن بنود اتفاق “أضنة”، ومحاولة طرد “وحدات حماية الشعب” (الكردية) التي تعتبرها تركيا امتدادًا لحزب “العمال الكردستاني”، المحظور والمصنف إرهابيًا.
وأكد النظام السوري، بدوره، أنه لا يزال ملتزمًا بالاتفاق السابق، متهمًا أنقرة بخرقه عبر دعمها فصائل المعارضة.
اتفاقية التجارة الحرة
تعتبر اتفاقية التجارة الحرة أولى الاتفاقيات المبرمة بين سوريا وتركيا، عام 2004، في عهد “حزب العدالة والتنمية”، برئاسة رجب طيب أردوغان، كما أنها الأولى التي يوقعها رئيس النظام السوري، بشار الأسد، مع تركيا.
وتمثل الاتفاقية نقطة تحول في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وتنص على تبادل البضائع في الاتجاهين دون رسوم جمركية على بعض البضائع سورية وتركية المنشأ، بالإضافة إلى إقامة مشاريع مشتركة في مجال الصناعة ومشاريع البنى التحتية والخدماتية.
ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ عام 2007، لكن تركيا علقت العمل بها نهاية عام 2011 احتجاجًا على ممارسات النظام السوري القمعية ضد شعبه، وأعلنت إيقاف كل التعاملات الائتمانية المالية مع سوريا وجمدت أصول حكومة النظام في البنوك التركية.
ورد النظام فورًا على القرار التركي بإعلانه رسميًا إيقاف العمل باتفاقية التجارة الحرة، وفرض رسومًا بنسبة 30% على المواد ذات المنشأ التركي المستوردة إلى سوريا، ثم أصدر قرارًا بمنع استيراد البضائع التركية وتداولها في الأسواق السورية.
“شام غن”.. اتفاقية ألغت تأشيرات الدخول
توصل النظام السوري إلى اتفاقية مع الجانب التركي، عام 2009، تقضي بإلغاء تأشيرات دخول المواطنين السوريين إلى الأراضي التركية، وكذلك الأمر بالنسبة للمواطنين الأتراك الراغبين بزيارة سوريا.
وبموجب الاتفاق تلغى الإجراءات القنصلية التي كان على مواطني البلدين اتخاذها سابقًا، واعتُبر الاتفاق صفحة من الانفتاح في العلاقات التركية- السورية، إذ أطلق عليه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي كان رئيسًا للوزراء حينها، اسم “شام عن” تشبيهًا باتفاق “شينغن” الأوروبي.
وألغي الاتفاق، مطلع عام 2016، حين فرضت تركيا تأشيرات دخول على المواطنين السوريين، نتيجة موجة اللجوء التي شهدتها البلاد باستقبالها ما يزيد على 3.5 مليون لاجئ سوري.